الرسّام السوري أنس البريحي لوحته مكتملة في “غاليري صالح بركات”
التجربة المتمكّنة تواجه فخاخ الاطمئنان إلى الحرفة المستتبّة
بقلم عقل العويط
متينٌ هو معرض الرسّام السوري الشاب أنس البريحي (من مواليد 1991) في “غاليري صالح بركات”، كليمنصو. معرضٌ متينٌ، ومتماسكٌ، ومستتبّ. بل ممسكٌ بالناصية التشكيليّة (الكلاسيكيّة)، باحترافيةٍ عالية، وماهرة، ومحنّكة، وواثقة (ومطمئنّة؟!). لكأنّ الفنّان قد أمضى ردحًا طويلًا من الزمن في الدربة والمراس والاختبار قبل أنْ يصل إلى ما هو ممسكٌ بزمام أعنّته إمساكًا لا يستطيعه كثرٌ من المخضرمين. علمًا أنّه في المقتبل الأوّل من العمر والتجربة. هذه علامةٌ باهرةٌ تُحسَب للبريحي في سجلّه الفتيّ الذي لا بدّ أنْ يشهد تحوّلاتٍ عميقة، إذا أراد أنْ يغامر منحازًا إلى القفزات النوعيّة والمخاطرات الاختباريّة المتجرّئة ذات اللمسات والبصمات الخصوصيّة والخاصّة.
الموضوع، موضوع النوم (الحالم) مستتبٌّ شكلًا ومضمونًا. الاستتباب هذا شأنه أنْ يكون نموذجيًّا، لأنه آخذ بالأصول والمعايير التي تمنح النصّ التشكيليّ من الناحية الشكليّة والشكلانيّة والأسلوبيّة، أنْ يستقرّ على مكوّناتٍ متوازنة ومؤطّرة، تراعي المساحات والأحجام وسبل التفكّر المجتهد فيها، أكان بناؤها أفقيًّا أم عموديًّا، تجريديًّا أم تعبيريًّا، وتجعل الكتل، حاملةً عناصرها المختلفة بأريحيّةٍ ورحابة، وبلا وجل، بين لونٍ يستقرّ هنا، ولونٍ يستقرّ هناك، بتقشّفٍ واختصارٍ وزهد، لكنْ بإيقاعٍ استقراريّ، وإنْ كان يلجأ الى تقسيماتٍ بحوافٍ حادة، مؤطّرة، تفصل بين فسحةٍ متراميةٍ ها هنا، وبقعةٍ هناك.
الموضوع هو نومٌ مستغرقٌ، يلتحف العراء، اللّابيت، أي التجريد تقريبًا، والانسياب في بنية التلال والروابي والبطاح (لكأنّ المعرض امتدادٌ أو استكمالٌ لمعرضين سابقين له، “أمّنا الأرض” و”صائد الأحلام”)، تحت السماء المفتوحة، التي كان يُفترض فيها أنْ تشرّع الحرّيّة المحلومة على أقصى ما يمكن أنْ تحلم به المنامات والأضغاث والأحلام والهروبات وهي تفرّ من الواقع والسجن الواعي، والمحسوس، لتتحرّر من ربقة اليقظة الموضوعيّة العاقلة. أي أنّ هذا النوم الذي يقترحه علينا الفنّان باعتباره مادّة للتأويل الفنّي، يدرجه البريحي تحت نظامٍ قويّ من المواضعات والمسلّمات التشكيليّة الراسخة، وتحت إشرافٍ مباشر من سلطة الوعي الفنّيّ (النموذجيّ الكامل!)، بما لا يتيح لهذا النوم الحلميّ أنْ يكون بابًا للتخييل الاستفزازيّ، وتجوالًا في اللّامتوقَّع، وتحليقًا في الممنوع والمحرّم والمكبوت… إلّا على سبيل الافتراض والتأويل، باعتبار أنّ المسألة هذه ملقاةٌ على عاتق المتلقّي فحسب.
والمعرض مكتملٌ ومتكاملٌ، وليس فيه نقصٌ ولا نقصانٌ، ولا هفوةٌ، ولا دعسةٌ ناقصة. فنحن في حرم التصوير المحض، ونتنزّه على سطح اللوحة التي تتشاوف تقاسيمها وإيقاعاتها بمهارة البناء، والاتقان، حيث يُرينا أنس البريحي كيف يقنص من خلال ثقافته الفنّيّة وإلمامه بتاريخ الفنّ، شيئًا من طريقة غوغان في استدارات اللحاف فوق النائم، وانحناءات الزيوح، وامتدادات الأراضي والسهوب والروابي، وأحوال النائم في نومه، الذي لا يُرى منه إلّا بعض قسمات الوجه، فيما الجسم متخفٍّ وغائب في تمدّده، أو منخرط في جسد الأرض والطبيعة. هذا لا يضير المعرض في شيء، فالفنّان ملكٌ في مملكته، وهو يضمّ الروافد إلى أراضي لوحته، ويستفيد منها، لتصير جزءًا من نسيج تجربته الشخصيّة.
وأجدني أسأل نفسي إذا كانت لوحة البريحي قد اكتملت مواصفاتها (وهو لا يزال في ريعان الشباب)، وتمكّنت من نواصيها الأسلوبيّة والشكليّة، أفلا يجدر بها أنْ تنفض ثياب الاستتباب، وتستفهم، وتطرح أسئلة حول مستقبلها الجماليّ والأسلوبيّ والشكليّ، وتجرّب، وتتمرّد، وتتوغّل في الباطن، بقصد الخروج إلى ما يلي غوايات الطمأنينة ؟
أعتقد أنّ هذا الفنّان الموهوب والمتمكّن جدًّا، مدعوٌّ إلى “امتشاق” هذه المغامرة التي تناديه بكلّ جوارحها. ولن يندم.