مَشاهد من رقصة الانتفاضة معرضًا لشوقي شمعون في “غاليري مارك هاشم”
النشوة الخالصة كسكرةٍ صوفية تتشظّى أضواؤها في الكوزموس الأعلى
بقلم عقل العويط
الألوان والأشكال هل تنفجر، هل تصير بذكاء ضربة النرد وبحنكة توتّر اليد، وبلاوعي الفرشاة، وبإيقاعٍ صوفيٍّ فالتٍ من عقاله، هل تصير لوحةً فنّيّة، تومئ إلى حشدٍ وشعبٍ وانتفاضةِ حرّيّة؟ معرض الرسّام شوقي شمعون في “غاليري مارك هاشم” من 23 شباط إلى 8 آذار 2024، الذي يضمّ 42 رسمًا بالأكريليك على ورق، وجداريّة (20 مترًا طولًا وستّون سنتمترًا ارتفاعًا)، يأخذ بعينَي الرائي، وبمجمل الحواسّ والمذاقات التأويليّة، إلى ذلك المسرح المفتوح على رقصة التخييل، ويطلق العنان لي، أنا المتلقّي والشاهد، لأتحاور، تشكيليًّا، مع حرّيّةٍ تعبيريّة توازي، بل قد تفوق حرّيّة أولئك الذين نزلوا إلى الساحات، تعبيرًا عن توقٍ جامحٍ إلى زمانٍ ومكانٍ يضعان لبنان وأجياله الشابّة وقواه الحيّة في الطريق المفضي إلى أرض الخلق والحبّ والانعتاق والحرّيّة.
هذه الألوان والأشكال، إذ تتفتّح وتنمو وتتوالد، وتتمادى في تكسير أساليب المتوقَّع والمتعارَف عليه، تصل إلى ذروة لامعقوليّتها الشكليّة، لكنّها – وهنا سرّها – تظلّ ممسكةً بمقاليد البناء الفنّيّ، وقوانينه، مطوِّعةً إيّاها، بما يكاد يجعلها، من فرط سورياليّتها وتجريديّتها، أشبه ما تكون بالواقعيّة السحريّة في العمل الروائيّ.
هنا، على سطوح هذه اللوحات، أرى الجموع، مثلما أرى المشاعر الإنسانيّة النبيلة، والأحلام التي ترفض الترويض، والرغبات في جموحها الأقصى، وأرى الأجساد كيف تتلامس وتتآخى وتتجاسد، في عناقاتها وهتافاتها وحركاتها الخالصة من كلّ قيدٍ وكبت، حتّى لكأنّها لحظةٌ أوركستراليّة ننصت إليها بالجوارح والعقول والقلوب. بل ننصت إليها أيضًا بلغة الصوت الذي كأنه يكاد يقفز من أعماق الألوان والأشكال، مناديًا إيّانا أنْ ننضمّ إلى احتفال الحرّيّة.
في مقدور المتلقّي، وهو ينخرط في هذه الحالة البصريّة، أنْ يشبّه مشهديّة السطح التشكيليّ بنوعٍ من طيرانٍ في الكوزموس الأعلى بين النيازك والنجوم والأفلاك والكواكب. هذا التشظّي الضوئيّ الهائل اللّانهائيّ لا افتعال فيه، ولا تصنّع، حيث بضربةٍ واحدةٍ يتحقّق “الانفجار” المغبوط بكونه ملوانةً تسرق المرء من حالة الكوكب الأرضيّ التاعسة إلى حالةٍ مضادّة. وأجدني أكاد أقول، من فرط نورانيّة هذه الحالة المضادّة، أنّها سكرةٌ صوفيّةٌ في خضمٍّ من الألوان والأشكال والزيوح والإيقاعات التي تؤلّف نسيجًا متناغمًا متشكّلًا من “تضادّات” حيويّة إيجابيّة، ليس فيها ما يدلّ على تنافرٍ أو نشاذ، أو ما يومئ إلى ذلك، بتأثيرٍ، على الأرجح، من كونها ارتجالًا برهويًّا خاطفًا، لا مدرَكًا، سورياليًّا، عفويًّا،لاواعيًا، يحرّكه العقل الخلفيّ الماثل وراء العقل ومَلَكات الوعي الإدراكيّ.
يخطئ مَن يعتقد أنّ الارتجالَ هنا يمكن أنْ يركب مركبَه مَن يشاء من الفنّانين الذين يستسهلون هذه “الغواية الانفجاريّة”. هي “غواية” حقًّا، لكنّها تنطوي، بقدر عفويّتها، على مضمراتٍ واختماراتٍ وخبراتٍ لامرئيّة، هيهات أنْ يستطيع إتيانها متطفّلٌ تشكيليّ. “غواية” خدّاعة ماكرة في الظاهر، لكنّ باطنها لا يملك التجوالَ فيه إلّا مَن يدُهُ متوغّلةٌ في لا- مدركات هذا الباطن. “غواية” تحمل عناصر موتها واندثارها وهبائها في ذاتها، إذا لم تكن يد هذا المبحر في كوزموسيّتها قادرةً – بلاوعي- على التحكّم بمكوّناتها ومنطقها الأوركستراليّ.
وهذا ما يجعل “مخاطرة” شوقي شمعون تستأهل الاحتفاء.
المعرض، احتفالٌ بصريٌّ مسرحيٌّ تشكيليّ، يمنح المتلقّي المُشاهد أنْ يتحدّى بالفنّ المقتلةَ التي يعيشها على أرض الواقع.
وفي هذا الاحتفال، لا بدّ من تتويج. وهو يتجلّى في رقصة الرقصات، حيث الارتقاء بالجسد، جسد الشكل وجسد اللون، إلى الذروة التعبيريّة، وإلى النشوة الخالصة.
وإذا كان الانتشاء حالةً انسانيّةً يصل إليها المرء بعد أنْ يتحرّر من قيود الواقع والأسر القهريّ، فإنّ هذه الانتشاء نراه هنا انتشاءً للون والشكل، وخروجًا من جاذبيّة المحدود إلى اللامحدود.
وهذا ما تبتغيه، في رأيي، هذه اللوحات – المَشاهد، التي تجعل من فعل الانتفاضة لحظةً خالدةً في الفنّ.