لا مفرّ!

بقلم عقل العويط

الأجوبة والأسئلة من الجيّد أنْ نتناقش فيها مع الفيلسوف الشاعر، أو الشاعر الفيلسوف. مارتن هايدغر، مثلًا، في مقدوره أنْ يجادل في الحياة. والقلق. والوقت. والمكان. والموت. والمصير. والعدم. وأنْ يتفكّر في الأحوال البشريّة، الشخصيّة والعموميّة. وأنْ يفلسف الحبّ بالقلب والعقل. والحبّ باللغة. والحبّ مطلقًا.
ينبغي ألّا أتحرّج أمام الفيلسوف. فلأرجمه، والحال هذه، بالانهمامات والاستفهامات. ذلك أنّ الحياة تستحقّ طرح الأسئلة في شأنها. لا شيء أكثر منها يستحقّ. بما هي فرصةٌ وأملٌ، ودائمًا. وبما هي التناقضات جميعها، وعذابٌ وشقاءٌ وفرحٌ وغبطةٌ وتأمّلٌ ورجفانٌ وعزاءٌ ولجوءٌ ومأوى ونهاية.
هل أطرح مثل هذه الأسئلة على زعماء العالم. على الرؤساء. على الملوك. على القادة؟ لا جدوى من ذلك، لأن لا أجوبة (شافية) من طريقهم، ولا حلول للمآسي والفواجع والكوارث. هؤلاء يملكون آلات القتل والسيطرة وأحلام القنابل النوويّة وهواجس البورصة. مهمّتهم أنْ يؤدّوا أدوارهم هذه، “على أكمل وجه”، بما تنطوي عليه من حلول يفرضها الغشيم القويّ. مشكل الوجود لا يشغلهم، ولا مساءلة القلب والعقل.
الفيلسوف يقضّه كنه الحياة. وكيف تُعاش. فهو شاعرٌ بالفكر والتفكّر، بالقلب والعقل واللغة.
لذا، أطلب من نفسي، من قلبي وعقلي، أنْ لا أضيّع الأوقات والفرص. أنْ لا أغرق في فناجين زعماء العالم، وأصحاب الأزرار النوويّة، ومرتزقة العصابات الكونيّة، وهنا. سرابٌ بسرابٍ أنْ أنتظر الحلول على أيديهم. فلأطلب الاحتمالات لدى الفلاسفة. هم شعراء الوجود، بما هو موتٌ وحياة. والحياة (الحقيقيّة)، أين هي الحياة، وما هي؟ إنّها في “مكانٍ” و”زمانٍ” لا ينهمّ بهما قادة الكوكب. والحياة، يجب ألّا يكون مفتاحها في أحد الأيّام بين أسنان هؤلاء الوحوش وتحت أيديهم. فلأبحث عنها، ولأعِشها، بلا كلل، وإن التهمني القلق الأكول.
قد يكون الفيلسوف معنيًّا أيضًا بـ”الحياة الأخرى”. هذا شأنه، وشأن فلسفته. لكنّ المهمّ، الآن، وهنا، هي الحياة. ليس ثمّة مهمّةٌ أعظم من أنْ أعيش هذه الحياة. وأنْ أعيشها بما يليق بها أنْ تُعاش. ما عدا ذلك، كلّ فكرٍ، كلّ هجسٍ، كلّ إيمانٍ واعتقاد، يجب ألّا يخرّب الحياة – الحقيقة، أو يتناقض معها. عبثًا، قبل أنْ تتوافر لي الحياة، عبثًا أجادل في مسألةٍ أخرى.
وحدها الحياة الكريمة، تتيح للمرء – إذا شاء – أنْ يفكّر في الآخرة، بنبلٍ وعقلانيّة. لكنّ تكريس العمر للتفكّر في الآخرة، والهجس بها، على حساب الحياة، هو هربٌ (تهرّبٌ) طوباويٌّ جبانٌ، وتخريبٌ (واعٍ) للظروف والاحتمالات التي تجعل الحياة مأوىً كريمًا لغبطة القلب والعقل و… اللغة.
لقد قُضيَ عليَّ بالموت منذ الولادة، ولا يمكن منعه بالفلسفة، ولا بسواها. باسكال يقول بذلك، وكيركيغارد يرى الفرد مسؤولًا عن إيجاد المعنى، ويطلب منه أنْ يعيش بصدق، وأبيقور يزعم أنّ الموت لا يعنيه، لأنّه لن يكون موجودًا عندما يجيء.
الموت يهدّد الحياة الشخصيّة (والعامّة) في كلّ لحظة، وهذا يجعلني مهمومًا وقلقًا، لأنّي سأكون منغمسًا في وجع الزمان والمكان. هذا هو القلق الهايدغريّ، وهو ليس لاهوتيًّا، بل دنيويٌّ وجوديّ. بل علمانيّ.
نحن في الوجود، لا مفرّ من ذلك. لا أحد سيموت عنّا. لا أحد سيعيش عنّا. قبل أنْ نموت، فلنداوِ المصير الأرضيّ بأن نعيش حياتنا بالقلب والعقل واللغة، حتّى النخاع الشوكيّ، وبلا هوادة، بما يجعل هذه الحياة فوزًا مكانيًّا وزمانيًّا (موقّتًا) على الموت، وهزيمةً (موقّتة) للعدم.
لا مفرّ من التعمشق بالحياة، وأخذها بتلابيبها. وبالحبّ. والكرامة!

اخترنا لك