البطريرك صفير يروي : هكذا صرت بطريركاً

( 4 من 8 ) وصلت الرسالة وأسرار بكركي في روما

بقلم نجم الهاشم

لم يكن المطران نصرالله صفير يحمل معه إلى الفاتيكان ملفّ الكنيسة المارونية فقط بل ملفّ الأزمات التي يواجهها المسيحيون في لبنان والشرق. كان واضحاً أن مهمته ليست سهلة بدليل أنّ المدبر الرسولي المطران ابراهيم الحلو كان يحاول تركيز موقعه والدفاع عنه ويشكو عدم التعاون معه. صفير اعتبر فور بدء لقاءاته في المجمع الشرقي في الفاتيكان «أنّ الحالة تستوجب تعيين بطريرك يتحمّل مسؤولية كاملة في هذه الظروف المأسوية التي يتقرّر فيها مصير المسيحيين في لبنان والشرق ومصير لبنان بالذات». وهو طلب موعداً مع البابا للبحث في ملفّي البطريركية والخطر الذي يواجهه المسيحيون. ماذا دوّن صفير عن محاضر لقاءاته في روما؟
في 23 كانون الثاني 1986 شارك المطران صفير في اجتماعات لجنة الحقّ القانوني حيث كان على جدول البحث موضوع القوانين المتعلقة بامتداد سلطة البطريرك إلى خارج المكان البطريركي أو حدود البطريركية، واستقرّ الرأي على أن تمتدّ هذه السلطة إذا كان هناك حقّ عام أو خاص أقرّه الحبر الأعظم بإصدار مرسوم خاص به.

البابا يوحنا بولس الثاني

لقاء مع محسن سليم

بواسطة المطران عيد تمّ الاتصال بين المحامي محسن سْليم والمطران صفير واتفقا على الالتقاء. دعاه سليم إلى تناول طعام الغداء في فندق «جون» في روما مع المطران عيد، ودعا أيضاً سفير لبنان لدى الفاتيكان غازي الشدياق والأب باسيل هاشم والمونسنيور توران والمونسنيور غاتي من أمانة سرّ الدولة البابوية. هناك دار الحديث عن الشؤون اللبنانية وتحدّث سليم بحماسة مشدداً على دور البطريركية المارونية في جمع كلمة اللبنانيين. وتطرّق الحديث أيضاً إلى الأشخاص والقيادات ومواقفهم السياسية و»الاتفاق الثلاثي» الذي يقطع عن لبنان روافده الفكرية في الغرب ويجعل منه بلداً تابعاً لا كرامة له ولا سيادة. وأشار سليم إلى أنّ سوريا ترغب في مفاوضة المسيحيين في لبنان بواسطة البطريركية المارونية لأنّها فقدت الثقة بالزعماء التقليديين من أهل السياسة. وكان واضحاً أنّ سوريا تلقّت ضربة قوية من خلال إسقاط «الاتفاق الثلاثي» وفشلت في الاختراق السياسي والأمني الذي كانت تخطّط له في المناطق الشرقية.

في 24 كانون الثاني 1986 التقى المطران صفير رئيس المجمع الشرقي في روما الكاردينال لوردو سامي. عند الساعة العاشرة والنصف ترك قاعة اجتماعات لجنة الحق القانوني ونزل لمقابلة الكاردينال. قيل له إنّ لديه زائرين. وبعدما انتظر وقتاً قليلاً جاء من يبلغه أن الموعد قد تأجّل إلى يوم غد.

تمثال مار مارون في الفاتيكان

خريش قدم استقالة خطية؟

عند الساعة الثانية عشرة والنصف قابل المونسنيور ريزي بحضور الأب بروجي. دعاه إلى الجلوس على مقعد أمام المكتب وجلس هو وراءه، وبدا مستمعاً ومصغياً لما سيقوله صفير الذي جاء خصيصاً تقريباً لهذه المهمة. قال له صفير: «أردنا من خلال هذه الزيارة أن نطلعك على الحالة في لبنان وفي الطائفة المارونية. هل أطلعتم على الكتاب الذي وجهه المطارنة الموارنة عن الحالة؟». من خلال هذا السؤال يتضح أنّ الكتاب سبق المطران صفير إلى روما وأنّه جاء ليبحث في مضمونه وليس لتسليمه. وقد تمّ إرساله عن طريق السفارة البابوية في حريصا. أجابه ريزي: «نعم لقد اطلعت عليه منذ مدّة قصيرة وعجبت لأمر وهو إمّا أنّ المطارنة لم يطّلعوا على استقالة البطريرك المقدّمة خطياً، وإمّا أنّ هناك ما يدعو للتساؤل عن القصد من كتابهم».

رد صفير: «إن قضية الاستقالة كانت مدار تساؤل ولم تُعرف إلا في ما بعد»، قال ريزي: «لقد أعلن البطريرك خريش على المطار عندما جاء إلى روما ونشرت الجرائد أنّه سيقدّم استقالته، والحقيقة أنه كان متردّداً». وتابع ريزي بينما كان صفير يصغي: «لقد جلس هنا على هذا الكرسي الذي أنت جالس عليه وحاورناه في قضية الاستقالة فكان متردِّداً. ثم قابل البابا ولعلّه كان منتظراً أن يطلب منه البابا أن يستقيل. لكنّ هذا الطلب لم يأتِ من البابا لأنّ البابا لا يريد أن يمسّ شعور أحد، لذلك وقعنا في الإرتباك وكان لا بدّ من اتخاذ إجراء فاتّخذناه على هذا الوجه»، أي قرار تعيين المدبّر الرسولي المطران الحلو. ولم يكتفِ ريزي بهذا الحدّ من المعلومات بل تابع: «كان المطران الحلو وعد أنّه سيحمله على الاستقالة وأنّه مسموع الكلمة لديه، لكنّ ذلك لم يحصل على رغم أنّه من أقرب الناس إليه».

كان صفير يستمع للمرة الأولى إلى هذه المعلومات التي تكشف بعض ما حصل مع البطريرك خريش والمطران الحلو الذي كان مطّلعاً مسبقاً على القرار الذي سيصدر. وكان يدرك أنه في مهمة واضحة ومحددة. لذلك قال للمونسنيور ريزي: «إننا كاثوليك ومتعلّقون بروما. وما خرجنا عليها يوماً ولن نخرج. لكن التدبير الذي اتُّخِذ كان له وقع غير مرضٍ في أوساط الأساقفة والشعب. لقد قيل لأنّ الأساقفة منقسمون، ولأنّهم لم يأتوا إلى المجمع الذي دعوتَهم إليه في روما، ولأنّ البابا غير راضٍ عنهم، لذلك اتُّخذ التدبير، والواقع غير ذلك. وإنّ من قال إنّه لن يأتي إلى روما ولو أتاها الجميع هو المطران الحلو». فقال ريزي: «لقد وقعنا في حيرة مثلكم، وقد فهمنا الآن الجو».

تدخّل الأب بروجي وقال: «التدبير أُخذ. وإذا عاد البابا عنه يُقال إنّه وقع في خطأ وهذا غير صحيح». وتابع ريزي مضيفاً: «لقد جاء في كتاب التعيين أنّ البطريرك ألحّ على الاستقالة وكان ذلك إنقاذاً للموقف، أما هو فكان متردداً». وسأل ريزي صفير: «هل تعتقد أن الأمر ملِحّ لانتخاب بطريرك؟». أجاب صفير: «إن كتاب المطارنة يطلب أن يكون ذلك في أقرب وقت، ولا سيما أنّ الحالة مأسوية وتتطلّب بطريركاً يتحمّل مسؤولياته كاملة. ونحن في ظروف يتقرّر فيها مصير المسيحيين قاطبة في لبنان وربّما في الشرق. وبعد، لا يمكن عقد المجمع بعد مضي شهرين نظراً إلى أن دعوة المطارنة لانتخاب بطريرك وتبلّغها يجب أن تتمّ قبل شهرين».

البطريرك خريش والمطران صفير

عيّناه مدبّراً ليصير بطريركاً؟

يبدو أن توضيحات المطران صفير قد لاقت آذاناً صاغية لدى الكرسي الرسولي، فتطرّق الحديث في هذا الاجتماع إلى عملية انتخاب بطريرك جديد وآليتها، فتبيّن أنّ هناك خشية من أن يتجدّد ما وقع في المجمع الذي انتخب خريش، حيث أنّه بعد مضي 15 يوماً على عقد الجلسات للانتخابات اضطرّت روما إلى التدخل، وهي لم تكن ترغب بذلك. وقد علّق ريزي على هذا الوضع وتابع قائلاً: «لقد اخترنا الحلو وعيّناه مدبّراً رسولياً. وقد قيل لنا إنّ هذا يشكّل خطوة على طريق صيرورته بطريركاً، خلافاً لما يصحّ في الغرب وهو أن المدبّر يذهب ضحية ذلك، وعلى ما يبدو أن عقلية الشرقيين هي غيرها عند الغربيين».

أثار صفير مع ريزي في هذا الاجتماع موضوع الكتاب الذي وجّهه المدبّر الحلو إليه وإلى المطران أبو جودة المتعلّق بانتقالهما إلى مقرّ آخر خارج بكركي، وأبلغه أيضاً ردّهما عليه لجهة عدم قدرتهما على اتخاذ قرار في هذا الشأن قد يلزمان به البطريرك العتيد بعد انتخابه، مضيفاً «ربما لا يريدنا نواباً له»، فوافقه ريزي والأب بروجي على هذا الرأي.

المطران ابراهيم الحلو

إنتخاب البطريرك قبل انتخاب مطارنة

وتطرّق الحديث أيضاً إلى مسألة انتخاب مطارنة جدد، فعلّق بروجي معتبراً «أن هذا الأمر هدفه أن تتسع دائرة الانتخاب فيُسرَّع في انتخاب البطريرك المقبل، وأنّ ما من أحد يقول إنّ البطريرك الجديد سيكون من بين المطارنة الجدد المنتخبين. أما القول إنّ المطارنة الجدد قد يُنتَخَبون ليَنتَخِبوا بدورهم شخصاً معيّناً للبطريركية، فلا يصحّ لكون المطارنة غير ملزمين بانتخاب من لا يريدون انتخابه».

كان واضحاً أنّه كانت هناك خشية من مسألة زيادة عدد المطارنة الجدد بحيث يكون هناك توجيه معيّن لانتخاب بطريرك متّفق عليه مسبقاً، وقد جادل صفير ريزي وبروجي في هذا الموضوع. وقبل فضّ الاجتماع ومغادرة المكتب، طلب صفير تحديد موعد له لمقابلة قداسة البابا. سأله ريزي عن الهدف وعن موضوع المقابلة، قال صفير إنه جمع رسائل البابا بعد ترجمتها إلى اللغة العربية في مجلد وأنّه يريد أن يقدّمه إليه. واستأذن صفير للخروج ووقف ووقف معه ريزي وبروجي وتابعوا الحديث في الموضوع وهم يغادرون المكتب، وقد أسرّ ريزي لصفير أن المطران يوسف الخوري صدمه التدبير الجديد المتخذ وشكره على الإيضاحات التي أعطاها.

خرج صفير من هذا الاجتماع مرتاحاً لأنّه تمكّن من إيصال الرسالة التي يريد إيصالها، والتي جاء من أجلها، وانتظر أن تسمح لقاءاته مع رئيس المجمع الشرقي ومع قداسة البابا بأن تتوضّح الصورة بشكل كامل من أجل انتخاب بطريرك جديد.

اخترنا لك