نحو تحقيق العدالة : دور المجتمع المدني والقضاء في التحقيق المحلي لتفجير مرفأ بيروت

كتبت د. كولشان يوسف صغلام

السنة الرابعة على تفجير ‎مرفأ بيروت في ‎٤ آب ٢٠٢٠
خاص بوابة بيروت – مشروع ذاكرة تحية لروح إياد الأمين

وقع تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، ما أسفر عن خسائر بشرية ومادية هائلة، وأثار تساؤلات حول المسؤولية والإهمال اللذين أديا إلى هذه الكارثة.

وسط هذه الظروف، لعب المجتمع المدني دوراً محورياً في المطالبة بالعدالة والمساءلة، بينما لم يستطع النظام القضائي المحلي الوصول لتحقيق العدالة نتيجة التحديات والتدخلات السياسية. لذلك، ونتيجة عدم الثقة بالقضاء المحلي، تظل الحاجة إلى تحقيق دولي شامل ملحة لضمان الشفافية والمصداقية في محاسبة المسؤولين.

دور المجتمع المدني

أبدى المجتمع المدني اللبناني رد فعل سريع وحاسم عقب التفجير، متمثلاً في تنظيم احتجاجات واسعة والمطالبة بالعدالة لضحايا التفجير. وقد تمثلت أدوار المجتمع المدني في عدة جوانب :

  • الضغط الشعبي : نظم المواطنون اللبنانيون تظاهرات مستمرة للضغط على الحكومة لتقديم المسؤولين عن التفجير إلى العدالة.
  • التوثيق والمراقبة : قامت العديد من المنظمات غير الحكومية بتوثيق الأضرار وجمع الأدلة والشهادات لدعم مسار التحقيق.
  • المطالبات الدولية : دعت منظمات المجتمع المدني إلى تحقيق دولي مستقل لضمان عدم تدخل الأطراف السياسية المحلية في مجرى العدالة.
  • تم تشكيل مجموعة محامين لمتابعة هذا الملف.

ومع ذلك، نتيجة الانقسامات المحلية في صفوف المواطنين وتبعيتهم الطائفية و “الزعاماتية” والحزبية، حيث الانقسام طال أهالي الضحايا أيضًا, لم يستمر المجتمع المدني في مسيرته بالضغط على القضاء والمسؤولين اللبنانيين في موضوع المحاسبة والقضاء العادل بنفس الوتيرة. إضافة إلى ذلك، هناك تراجع في نشاط المجتمع المدني نتيجة الإحباط واليأس والفساد المستشري في البلاد، وأيضاً نتيجة الأزمات الخانقة التي تبدل الأولويات في الظروف الطارئة.

دور القضاء اللبناني

واجه النظام القضائي اللبناني تحديات جسيمة في إدارة التحقيق المحلي، ومن بين هذه التحديات :

  • الضغوط السياسية : تعرض القضاء لضغوط كبيرة من قِبل الأطراف السياسية التي سعت للتأثير على مسار التحقيق.
  • نقص الموارد : عانى القضاء من نقص في الموارد والتجهيزات اللازمة لإجراء تحقيق شامل وفعال.
  • التعاون الدولي : رغم التعاون المحدود مع الجهات الدولية، إلا أن الحاجة لتحقيق دولي شامل ظلت ضرورية لضمان الشفافية.

لكن نتيجة الضغط على القضاء اللبناني والمحسوبيات وعدم فصل السلطات والتدخل السياسي، لم يصل القضاء إلى أي تقدم ملموس منذ 2020. وقد تعرض القضاة المكلفون بالتحقيق، مثل القاضي طارق بيطار و قبله القاضي صوان، لضغوط وتهديدات حالت دون تحقيق تقدم حقيقي. هذا الوضع أدى إلى انقسام أهالي الضحايا، حيث يدعم جزء منهم القاضي بيطار ويعتبرون أن السلطة السياسية تعرقل عمله، بينما يرى الجزء الآخر أنه مسيس ولا يقوم بواجباته بشكل محايد.

دور فرنسا في الأزمة

عقب التفجير، حيث كانت السلطة السياسية المسؤولة عن التفجير كانت منتظرة محاكمة الشعب لها، تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث زار بيروت وعقد اجتماعات مع المسؤولين اللبنانيين. رغم أن تدخله كان يُفترض أن يدعم الشعب اللبناني ويضغط لتحقيق العدالة، إلا أنه أعطى شرعية جديدة للسلطة السياسية اللبنانية المتهمة بالإهمال والفساد، مما أدى إلى تقويض جهود المجتمع المدني والضغط الشعبي.

نحو تحقيق دولي شامل

في ظل التحديات التي تواجه التحقيق المحلي و غياب الثقة باستقلالية القضاء، يبرز السؤال حول أهمية وضرورة تحقيق دولي شامل، ويتضح ذلك من خلال :

  • الشفافية والمصداقية : تحقيق دولي مستقل يضمن نزاهة التحقيق ويعزز الثقة في نتائجه.
  • التعاون الدولي : يمكن للتحقيق الدولي أن يستفيد من الخبرات والإمكانات الدولية المتاحة، مما يسهم في كشف الحقيقة كاملة.
  • المساءلة والمحاسبة : يساهم التحقيق الدولي في تقديم جميع المسؤولين، بغض النظر عن مناصبهم، إلى العدالة.

لكن نتيجة تجارب سابقة مثل قضية مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والنتائج التي توصل إليها التحقيق الدولي، لم يعد هناك ثقة كبيرة في القضاء الدولي. أيضًا، نتيجة القضايا الفلسطينية والكثير من القضايا الأخرى التي حولت إلى المحكمة الدولية ولم يتم البت فيها بشكل عادل وشفاف ومستقل، تتضاءل الثقة في منظومة حقوق الإنسان الدولية.بالعودة لأساس المشكلة في البلاد وهي الفساد المستشري وبطريقة حكم البلاد، لذلك لابد من الاستفادة من تجارب بلدان سبقتنا بظروف قد تكون مماثلة.

الدروس المستفادة من تجربة رواندا

تعد تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية التي أودت بحياة أكثر من مليون شخص في غضون أقل من أسبوعين، نموذجاً ملهمًا في كيفية استعادة البلاد لعافيتها. بعد المجزرة، اتفقت كل أطياف المجتمع الرواندي بما فيها المجتمع المدني والنساء والشباب على ضرورة حماية البلد والقيام بإصلاحات شاملة. واليوم، تتميز رواندا بالازدهار، والمشاركة العالية للنساء والشباب في اتخاذ القرارات، والشفافية، والمساواة، والمحاسبة، والقضاء العادل.

يمكن الاستفادة من تجربة رواندا من خلال تبني مبادرات شاملة للإصلاح ومكافحة الفساد في لبنان، بهدف بناء دولة قائمة على الشفافية والمساواة والعدالة، البداية يجب أن تكون بالإصلاح.

نحو إصلاحات شاملة في لبنان

بصفته بلداً صغيراً، يجب على لبنان أن ينأ بنفسه عن التدخل في الحروب الخارجية والمشاكل التي تحدث خارج حدوده، و بالتالي عدم السماح لدول أخرى بالتدخل بشؤوننا الداخلي و احترام سيادة لبنان. لتحقيق العدالة الشاملة والمساواة في ظل التعددية الموجودة، فإن الحاجة إلى دولة مدنية حديثة تراعي حقوق الإنسان على أساس المواطنة وليس على أساس طائفي، مذهبي، أو عنصري، تصبح ضرورية.

إن سوء تطبيق اتفاق الطائف، رغم كونه نظاماً جيداً، يستدعي إعادة التفكير في الحلول الممكنة، حيث أن الحل الأنسب يكمن في بناء دولة مدنية بنظام جديد.

على مستوى المجتمع المدني

 

  • تعزيز الوحدة والتضامن : العمل على تجاوز الانقسامات الطائفية والسياسية لتعزيز الضغط الشعبي والمطالبة بالمحاسبة والعدالة.
  • زيادة التوعية والتثقيف : تنظيم حملات توعية حول أهمية المحاسبة والشفافية ودور المجتمع المدني في تحقيق العدالة. كما أهمية دور القضاء في المحاسبة.
  • الضغط على المنظمات الدولية والمجتمع الدولي : تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية لزيادة الضغط على الحكومة اللبنانية وتحقيق الشفافية.

على مستوى القضاء

 

  • تأمين استقلالية القضاء : العمل على فصل السلطات وتأمين استقلالية القضاء عن التدخلات السياسية.
  • حماية القضاة : توفير حماية للقضاة المكلفين بالتحقيق لضمان قدرتهم على العمل بحرية ودون ضغوط.
  • تحسين الموارد : تأمين الموارد اللازمة للقضاء لإجراء تحقيق شامل وفعال.

على مستوى منظومة حقوق الإنسان الدولية

 

  • إصلاحات في المنظومة الدولية : العمل على إصلاحات في المنظومة الدولية لزيادة الشفافية والمصداقية في التحقيقات الدولية.
  • تعزيز التعاون الدولي : تعزيز التعاون بين الدول لضمان تنفيذ نتائج التحقيقات الدولية ومحاسبة المسؤولين.
  • زيادة الدعم للمجتمع المدني : تقديم دعم أكبر للمجتمع المدني في لبنان لضمان استمرارية الضغط على السلطات المحلية والدولية لتحقيق العدالة.

على مستوى الدولة اللبنانية

 

  • النأي بالنفس عن التدخلات الخارجية : تجنب التدخل في النزاعات والحروب الخارجية والتركيز على الشؤون الداخلية.
  • القيام بإصلاحات شاملة : تبني إصلاحات شاملة لمكافحة الفساد وبناء نظام عادل وشفاف، مستفيدين من تجارب ناجحة، كما إقامة نظام مكننة للحد من الفساد.

في الختام، إن دور المجتمع المدني والقضاء في التحقيق المحلي لتفجير مرفأ بيروت هو محور أساسي لضمان العدالة والمساءلة. ومع ذلك، تظل الحاجة إلى تحقيق دولي شامل ملحة لضمان الشفافية والكشف الكامل عن المسؤولين عن هذه الكارثة في ضل غياب الدولة العادلة.

إن التعاون الدولي في هذا السياق ليس فقط ضرورياً، بل هو أيضاً السبيل الأمثل لتحقيق العدالة الكاملة، مع العمل على تحسين الثقة في المنظومات القضائية الدولية والمحلية من خلال الإصلاحات والدعم المستمر. ونتيجة كل ما تم الإشارة له، الحل هو بناء دولة مدنية حديثة تقوم على أساس المواطنة وحقوق الإنسان، بعيداً عن الطائفية والمذهبية والعنصرية.

اخترنا لك