بقلم د. ميشال الشماعي
جاء الرّدّ الكلامي المرتقب من قبل أمين عام منظمة “الحزب”، محاولًا التّخفيف من فعاليّة ما قامت به إسرائيل ومعترفًا بأن ذلك إنجازًا يشهد لها بتحقيقه. كما اعتبر نصرالله أنّ الاستهدافات الجديدة التي طالت العمق الإسرائيلي هي بحدّ ذاتها إنجاز لكنّها ليست “الرّدّ” المنتظر على عمليّة اغتيال القائدين هنيّة وشكر.
ما أعلنه نصرالله في خطابه ليس موجّهًا إلى العدوّ ومَن يسانده فقط، فهو اعتمد أسلوب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو نفسه الذي استخدمه في خطابه في الكونغرس الأميركي. لذلك، هو “تننيه” وصار يستخدم الأسلوب “النتنياهويّ” نفسه، لكن ليس ليهدّد إسرائيل به، بل ليهوّل على اللبنانيّين والعرب.
فكما اعتبر نتنياهو نفسه من قوى الخير وهو يحارب قوى الشرّ وقال للرأي العام العالمي إن انتصار إيران وحلفائها سيؤدّي إلى وصولهم لعقر الغرب، هكذا نصرالله اعتبر أن انتصار العدو يعني سقوط حلم الدّولة الفلسطينية وتهجير من تبقى من الشعب الفلسطيني وتوطين اللاجئين وأسرلة الجولان ومزارع شبعا داخل حدود الاحتلال؛ وحتّى وصل الأمر به إلى التهديد بسقوط الأقصى.
لم يتوانَ نصرالله بانتقاد مسار السلام من كامب دايفد وحتّى اللحظة، واعتبر أن انتصار إسرائيل يعني تسيّدها المنطقة بالكامل. حتّى أنه انتقد أيّ مشروع قد ينتصر في سوريا معتبرًا أنه لو كان حتى علمانيًّا سيكون ضدّ المشروع الممانع في المنطقة. ما يعني أن للممانعة مشروع جديد في ترتيب المنطقة ورسم خرائطها وفاقًا لمصالحها هي أيضًا. هذا هو الدور المضمر الذي تلعبه منظمة “الحزب” في حرب غزّة.
اللافت في كلام نصرالله اعتباره أّ هدف هذه المعركة الآن ليس إزالة إسرائيل من الوجود بل منعها من الانتصار، ما يعني تراجعًا في المشروع الممانع لا سيما أن الهدف لم يعد كما كان قبل طوفان الأقصى. فعن أي إسناد بات يتحدّث؟ كما اعتبر أّ معركته محدّدة الأفق بينما معركة العدوّ بلا أفق، في حين أن غزّة تكاد لا تكون موجودة وعدّاد الضحايا يناهز الخمسين ألف ضحيّة. واعتبر أيضًا بطولة أن يساوي وضع السكان الإسرائيليين والاقتصاد الإسرائيلي والسياحة عندهم بما حدث ويحدث في لبنان. فهل كان باستطاعتنا تجنّب ذلك لو لم يكن هنالك 8 تشرين الأوّل؟ بالطبع ذلك ممكن.
لكن أدبيّات المحور الذي وعدنا نصرالله بردّه القريب لا تسمح بذلك. من هنا بالتّحديد حاول فرض إيقاع تمايز الدخول في هذه الحرب حيث اعتبر أّ “إيران مُلزمة بأن تُقاتل بعد اغتيال هنية لكن ليس المطلوب منها الدخول في قتال دائم”، فيما انهماكات سوريا الداخلية تحرّرها من أي ردّ، بينما الحوثيّون سيردّون على قصف الحديدة.
لكن لبنان باقتصاده المنافس مليارات اقتصاد العدو الإسرائيلي، وثباته السياسي، وعداد المشاكل المصفّر الموجودة فيه، هذه كلّها تسمح للبنان الدولة بأن يكون واجهة الرد، وباعتباره يجب ألّا ننصرف إلى تنظيف بيتنا الدّاخلي والاهتمام ببلدنا في هذه الحرب الطّاحنة التي ستفرز خرائط جديدة، يعتبر نصرالله نفسه ومحوره من المقرّرين برسمها، ويستمرّ بتهويله على اللبنانيين في حال انتصار إسرائيل في معركته هذه، طالبًا منهم ألا يشاركوا في الحرب النّفسيّة ضدّه.
أيّ كلام خارج عن المنطق هذا؟ أين يعيش ومحوره؟ هل يدرك أن جمهوره يعيش اليوم في قرى الاصطياف والموسم فيها بات حرزانًا نتيجة الدّولارات التي صرفها طوال هذه السنين على احتضانه لمشروعه؟ هل يدرك أن معظم روّاد المطاعم والملاهي الليلية والـ “one big champagne” هي من جمهوره الذي يحتضن مشروعه؟
لا أحد يشارك في التآمر النفسي أو الإعلامي على محوره أو جمهوره، فيكفيه أن يتمثّل بالخليفة المأمون ليرى حال رعيّته. حديثه الساخر عن الحرب النّفسيّة التي يمارسها على إسرائيل في عمليّة انتظاره للردّ المرتقب، فيها ضرب من الاستخفاف بالعقول. إن كان الأمر لا يزال ينطلي بعد على أولئك الذين يصفّقون له أو الذين يتفاخرون بتسيّده عليهم ويتصوّرون في خطاباته بالـ “Selfies”، فهذا الكلام لم يعد ينطلي على معظم الشعب اللبناني الذي يريد الحياة ولا يقبل الموت فداء لأحد.
يبقى أن الإشكالية الكبرى لن تكون في عملية الردّ الموعود بل بعملية الرّدّ على الردّ. الشعب اللبناني بأسره يعادي إسرائيل، وأسطوانة أن بعضهم يهلّل لانتصاراتها المزعومة ساقطة. فنحن دستوريّون وجمهوريّون وسياديّون وما من عاقل يهلّل لدولة عدوّة على حساب وطنه، وإذا وجد هكذا صنف من البشر، فيجب نزع حقّه بالجنسية اللبنانية والهوّية التي تحمل الأرزة اللبنانية. “وما يواخذنا السيّد” نحن بشر ولسنا بحاجة لأن يصدّق على بشريّتنا من خلال قبولنا السير معه بمشروعه الانتحاري هذا. نحن بشر بلبنانيّتنا. ولا نريد غربًا أو شرقًا، بل نريد فقط لبنان. نرفض حربه. نرفض مشروعه. نرفض انتحاره الوطني للمكوّن الشيعي. فما نريده هو لبنان الـ “10452 كم²” الذي دفعنا ثمنه حياة “المؤسِّس” ولن نقبل سواه. أمّا إن هو أراد سواه فهو حرّ، لكن لبنانيّينا أيضًا كلّهم أحرار ولهم الحقّ في تقرير مصيرهم، ومشروعنا هو الحقّ والحياة والكرامة ولن نقبل سواه.