بقلم غسان صليبي
“من هو قريبي” هو عنوان عظة البطريرك الراعي يوم الأحد في ٨ ايلول. والعنوان مستوحى من مثل “السامري الصالح” في انجيل لوقا ١٠ ٢٥-٣٧.
خلاصة مثل السامري، انه ذات مرة، عندما كان يسوع يعلّم الجموع، تقدم اليه ناموسي (رجل متمسك بالشريعة)، وسأله سؤالا لكي يجربه وقال :” يا معلم ماذا علي ان افعل لكي انال الحياة الابدية؟ “. سأله يسوع بدوره “ما هو مكتوب في ناموس الله؟ كيف تفسره؟ “، فأجاب قائلا،” تحب الرب الهك من كل قلبك وقوتك وفكرك وتحب قريبك كنفسك “. فقال له يسوع، “بالصواب اجبت افعل هذا لتحيا.”
ثم ما لبث الناموسي أن عاد وسأل يسوع ،” ومن هو قريبي؟” فإذا بيسوع يجيبه بطريقة غير مباشرة من خلال مثل “السامري الصالح”. يقول المثل أن يهوديا كان متوجها من اورشليم الى اريحا، فسطا عليه اللصوص وسرقوه وضربوه وتركوه مرمياً على الطريق بين حي وميت. فمر به كاهن يهودي ولم يكترث له، وتبعه رجل متدين يسمونه “لاوي” ولم يبالِ أيضا واكمل طريقه. لكن سامرياً مر في الطريق، وكان السامريون واليهود أعداءً، فتوقف وداوى جراح الرجل ونقله على حماره الى فندق تكفل هو بدفع إجاره.
بعد ان أكمل يسوع الحكاية، نظر الى الناموسي وسأله: ” اي من الرجال الثلاثة اصبح قريب الرجل المجروح ؟” فأجابه الناموسي، ” الرجل الذي رحمه واعتنى به”، فقال له يسوع “اذهب وافعل الشيئ نفسه”.
كما في أمثلة أخرى يذهب يسوع الى اقسى المعاني على قلب الإنسان المتردد في ممارسة اقصى انسانيته. اذ ان المتخاذل في انسانيته تجاه قومه، في مَثَل يسوع، ليس مواطنا عاديا بل هو الكاهن او المتديّن، كما ان الإنسان المحب هو العدو وليس أخا او صديقا او شريكا في الانتماء الاجتماعي الواحد؛ اما معيار الانسانية فهو كيفية التعامل مع الانسان ذي الحاجة وليس الانسان الميسور او المكتفي.
استخلص البطريرك الراعي الدرس الانجيلي وقال في عظته: “المحبّة والرحمة هما ثقافتنا المسيحيّة التي علينا أن نعامل بها كلّ إنسان، دونما اعتبار لدينه أو ملّته أو انتمائه. يكفي أن يكون ذا حاجة”. لكن البطريرك عجز للأسف عن تطبيق ما تعلمه من يسوع، عندما تناول تعقيدات الواقع اللبناني. وإذ أتفهم صعوبة التماهي مع أعمال يسوع التي كانت نتيجتها الصلب، بقرار من أبناء دينه ومن العدو الروماني في آن واحد، غير أنني مع ذلك، سأبدي ملاحظات على بعض ما جاء في عظة البطريرك نفسها حول الشأن اللبناني الوطني.
يقول البطريرك: “إن اللبنانيين يعانون اليوم من ثقل التربية والتعليم والصحة والإستشفاء والغذاء والمعيشة وفرص العمل وسواها، وهي من صميم مسؤولية الدولة الملتزمة رعاية أبنائها. لكنّها معدومة ما دامت الدولة بلا رأس وفاقدة الجانب الأعلى من ميثاقيتها الذي يستمر فارغًا منذ قرابة سنتين. إن هذا الفراغ الذي يبدو متعمّدًا يترك تداعيات سلبية كبيرة على المستوى الوطني، أولها عدم انتظام المؤسسات، وتفكّك الإدارة واستباحة القوانين والأعراف وصولًا إلى استهداف مواقع ومراكز مسيحية وبخاصة مارونية في الدولة تمهيدًا لقضمها، مما بات يهدّد صيغة المشاركة والمناصفة في الحكم والادارة.”
ينطلق البطريرك من الحاجة، في التعليم والصحة والعمل، ليطرح قضية مسؤولية الدولة في سد حاجات الناس. وإذ يؤكد على مسؤولية الدولة في “رعاية ابنائها”، لا يحرص للأسف على توضيح فكرته هذه، وصولاً الى تبني قيام دولة الرعاية التي تؤمن بنفسها التعليم والصحة وفرص العمل، بدل ترك هذه الخدمات العامة الاساسية بيد القطاع الخاص، كما تريد للأسف أطراف لبنانية عديدة ومن بينها الكنيسة المارونية. فتأمين هذه الخدمات عن طريق الدولة هو ما يسد الحاجات بشكل كامل بعيداً عن تأثير المال والتمييز الطبقي بين البشر، وما يفرضانه من لامساواة في مجال تأمين هذه الحاجات. وبالمناسبة، تصرف السامري كما تتصرف دولة الرعاية، فضمّد الجراح وأمن نقل الجريح ووضعه تحت الرعاية الصحية، وكل ذلك مجاناً، وعلى حسابه.
ومع أنني أوافق الراعي أن الفراغ على مستوى رأس الدولة له تداعيات سلبية على المستوى الوطني، وقد عدّد بعض هذه التداعيات، لكنني لا اوافقه القول ان هذا الفراغ هو ما تسبب ويتسبب في واقع أن رعاية الدولة لأبنائها “معدومة”، بل هو واحد من الأسباب، انما الأكثرها اهمية هو السياسة الاقتصادية الاجتماعية لهذه الدولة، ماضيا وحاضرا، والتي يتفادى البطريرك الماروني الكلام عنها وانتقادها في عظاته.
وفي هذا السياق، يمكن فهم وانتقاد ما قصده البطريرك في كلامه عن “استهداف مواقع ومراكز مسيحية وبخاصة مارونية في الدولة تمهيدًا لقضمها”. فصحيح أن هذا الفراغ المتعمد على مستوى رئاسة الجمهورية يعطّل انتظام المؤسسات، كما انه قد يكون من أهدافه قضم المراكز والمواقع المارونية، في إطار الصراع بين المذاهب والطوائف على السلطة، الا انه اذا كان المقصود في خلفية هذا القول الدفاع عن رياض سلامه، كواحد من الذين تبوؤوا احد المراكز المارونية المستهدفة، فنكون أمام خطأ جسيم على المستوى القانوني، وخطيئة مميتة على المستوى الديني، يرتكبهما البطريرك الراعي.
سبق للراعي أن صرّح سنة ٢٠٢٢ عند البدء بإستجواب سلامه وتوجيه التهم اليه: “المطلوب محاكمة جميع الفاسدين الذين بددوا المال العام وأوصلوا البلاد إلى الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي، لا أن تنتقي السلطة شخصاً واحداً من كل الجمهورية وتلقي عليه تبعات كل الأزْمة اللبنانية وفشل السنوات الثلاثين الأخيرة”.
كان من الأجدر على البطريرك التمسك بهذا الموقف وتطويره بعد توقيف سلامه، بدل الإيحاء بأنه يدافع عنه. فالتحقيقات مع سلامه، محلياً ودولياً، تتقاطع حتى الآن بإتجاه اتهامه بأنه سارق للمال العام. واذا كان استسهال استهدافه هو بسبب مارونيته، فهذا لا يعني انه لم يعد سارقاً. وبدل انتقاد العدالة المجتزأة من خلال إعطاء الانطباع برفض محاكمة سلامه، المطلوب من البطريرك الدعوة الى تطبيق العدالة الكاملة عبر فتح ملفات سرقة أخرى تطال جميع الفاسدين في السلطة ومن كل الطوائف، بمن فيهم الموارنة الذين هدروا أموال الكهرباء.
السامري الصالح لم يسأل لا عن هوية السارق ولا عن هوية المسروق. والمسروق في حالتنا هو اكثرية الشعب اللبناني، من جميع الطوائف، التي تطمح لإستعادة أموالها المسروقة، عبر محاكمة جميع المتورطين. وكل انسان لبناني او غير لبناني، يعمل من أجل تحقيق هذا الهدف، هو “قريبك” يا غبطة البطريرك.
اعرف كما يعرف البطريرك أن استهداف مسؤولين من بعض الطوائف الأخرى دونه عقبات سياسية وعسكرية، كما حصل مثلا في قضية تفجير المرفأ. وأعرف أن هذا ما يقلق البطريرك الذي يشهد على تقهقر الموارنة سياسياً، والمسيحيين بشكل عام، ديموغرافياً. وبالتوازي يتغيّر وجه لبنان، وكيانه اصبح في خطر.
للأسف ما يحصل اليوم يعزز مخاوف البطريرك. فقد تم الادعاء على سلامه بجرائم “اختلاس المال العام، وإثراء غير مشروع”، ما يعني أن استجواب سلامة ربما لن يتخطى هذه الدائرة، التي تطاله دون سواه من المتورطين من الطبقة السياسية، في سرقة المال العام. وربما كان رفع الغطاء السياسي عنه قد تم لهذا السبب. كما ان توقيفه ربما يؤجل وضع لبنان على “اللائحة الرمادية”، ويسمح بالتالي للطبقة السياسية المرتكبة بإستجلاب دعم مالي إضافي، يمكنها من الاستمرار في الحكم.
لكنه رغم هذه الصورة القاتمة، ليس الدفاع عن رياض سلامه او عن أي موقع ماروني آخر، هو ما يوقف تقهقر المسيحيين او يسمح بمحاكمة جميع المتورطين، وهو بالتأكيد لن يحول دون ضياع الوطن. وحده الموقف الواضح والثابت والشجاع، يا غبطة البطريرك، قد يفتح الباب امام المعالجات الوطنية على كافة المستويات. وهذا أكثر ما نفتقده منك ومن معظم القيادات المسيحية المتباكية على المصير.