بقلم زهير هواري
رحل الروائي والكاتب والاكاديمي الياس خوري يوم الاحد الموافق في 15 أيلول الجاري عن عمر يناهز الـ 76 عاماً. رحل عن هذه الدنيا، وبلادنا أحوج ما تكون لقلمه الذي طالما قدم لها من نسغ روحه ما لا يعد أو يحصى من المواقف والكلمات والنصوص. رحل عن هذه البلاد التي كلما غارت السكين في جسدها كلما أحبها أكثر، وكتب لها أكثر، ومنحها زهرة قلبه وعمره حتى آخر قطرة زيت في قنديل حياته.
رحل الياس خوري في زمن أحوج ما تكون بلادنا له ولأمثاله من الذين يقفون بصدورهم في مواجهة الرياح المسمومة التي تهب على قرانا وبلداتنا ومدننا، فتحيل أحياءها تحت حمى طائرات الأف – 15 و16 و32 و22 مجرد ركام على ركام سابق. ركام سابق صنعته أيدي أنظمة الاستبداد السوداء، وركام راهن تصنعه قذائف الموت الأميركية – الاسرائيلية.
كان الياس خوري منذورا لبلاده وجبل الاشرفية الصغير، ولفلسطين، كل فلسطين سواء أسميت القدس العتيقة بحجارة كنائسها وجوامعها وبيوت حاراتها، أو قطاع غزة أو الضفة الغربية. وكلها يراها تنزف أطفالا ونساء ورجالا وشتلات حبق الشرفات وعرائش عنب، وجوعا وعطشا وطرقات تفلحها الجرافات الإسرائيلية ، ومدارس وجامعات ومستشفيات باتت في لحظات ملعونة مجرد بقايا أنقاض من الاسمنت، لا أثر للكتب والدفاتر والحقائب الصفية والاحلام والاقلام الملونة في صفوفها وفي ملاعب مدارسها. فقط ما هو أمامك وأمامنا ليس سوى مقابر في الساحات الصغيرة دون شواهد قبور، وجثث دون شواهد أسماء معجونة مع أكوام المباني المدمرة.
كأنه الموت المكرر الذي يقتل الراوي والرواية وشخصيات الحكاية دفعة واحدة وفي أقل من رمشة أو غمضة عين. يموت الجميع بينما القاتل يبقى محدقا بعيونه المجرمة بضحاياه دون أن يرف له جفن، أو يحترم صمت الموتى ومعاناة الجرحى والمشوهين والثكالى والأيامى والارامل والايتام. فقط هو يجيد مهنة القتل المتعمد، كأنه مجرد آلة أو روبوت جزار في مسلخ بشري، وهو وحده الذي يملك أدوات الفتك الدامية بيديه وقلبه. بعد عام تقريبا على المذبحة أختار الياس خوري موعد موته. لم يعد بإمكانه الصمود على كل تلك الاوجاع التي تحيط به ويعاني. لقد صمد بما فيه الكفاية من الكتيبة الطلابية حتى الكتابة الروائية والبحثية والافتتاحيات. ودوما كان خوري وفيا للرسالة التي منحها عمره وجهده وكامل طاقته بما هي قضية فلسطين وقضية لبنان.
كان الياس خوري لبنانيا فلسطينيا وفلسطينيا لبنانيا ومن الصعب أن تميز احداهما عن الثانية. لذلك أفنى عمره مدافعاً عن بقائهما تعويذة ايمان وحظ، يستقوي بهما المستضعفون والمهمشون والغرباء والبائسون، في زمن جرى تعميم كل ذلك على مساحات بلادنا حتى غمر هذا الوباء مساحات سوريا والعراق والسودان وليبيا وكل مكان ينطق بلغة الضاد. ودوما كرس الياس خوري حياته للبنان الذي خرج من جبله الصغير وباب الشمس في فلسطين التي انتسب إليها بالكلمة والجرح. ودوما كان منحازا إلى الناس الضعفاء المشردين والمقهورين بجزمات العسكر والميليشيات، وعصابات ثم جيش قوة التطهير العنصري الصهيوني على أرض فلسطين. وعندما يتضعضع هذا الجيش تحت هول صدمة المواجهة، تصل بوارج وأساطيل وأسراب طائرات حلف الناتو لنجدته ودعمه على القيام بالدور الذي وُجد من أجله في بلادنا وعلى أرضنا في فلسطين ولبنان والجولان المربوطة الألسنة عن احتلاله منذ عقود وعقود.
ولهذا، احتلت القضية الفلسطينية حيزاً كبيراً في أعماله ومقالاته على مدى دقائق أيامه وسنوات عمره ودقائق وساعات مرضه. فلا يمكن أن نذكر فلسطين في الأدب من دون التوقف عند رائعة الياس خوري “باب الشمس” ومن ثم ثلاثية “أولاد الغيتو” التي جاءت بعدها بسنوات لتستكمل هذا التأريخ لهويةٍ لا يمكن أن تُمحى مهما حاول المحتلّون.وتواطأ المتواطئون والعاجزون عن الوقوف على أقدامهم وخوض الصراع.
وُلد إلياس إسكندر خوري عام 1948 في منطقة الأشرفية في بيروت، أي في عام نكبة فلسطين وأهلها، وفي سن الثامنة بدأ اهتمامه بالأدب من خلال روايات جرجي زيدان. و اطلاعه على الأدب العربي الكلاسيكي، والنصوص الأدبية المرتبطة بالحداثة، والروايات الروسية لكتّاب مثل بوشكين وتشيخوف. وفي العام 1966 حصل على شهادة الثانوية العامة، وفي العام 1967 أي في عام نكسة الـ 5 من حزيران سافر خوري البالغ من العمر 19 عاماً إلى الأردن وزار مخيّماً للاجئين الفلسطينيين. و تابع دراسته وحصل على الليسانس في التاريخ من كلية الآداب في الجامعة اللبنانية عام 1971، وبعدها حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من جامعة باريس. ودخل في مجال الصحافة الأدبية وانضم إلى هيئة تحرير مجلة مواقف ثم لم يلبث بين الأعوام 1975 – 1979 أن صار مديراً لتحرير مجلة شؤون فلسطينية برئاسة الشاعر الراحل محمود درويش، وعمل محرراً لسلسلة ذكريات الشعب الصادرة عن مؤسسة البحوث العربية في بيروت بين عامي 1980 و1985، وكان مدير تحرير مجلة الكرمل من 1981 إلى 1982، ومدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة السفير من 1983 إلى 1990، ورئاسة تحرير ملحق النهار الثقافي من عام 1992 إلى عام 2009 ، ثم تولى إدارة مسرح بيروت من 1992 إلى 1998، ومدير مشارك في مهرجان أيلول للفنون المعاصرة. كما ساهم في تحرير القدس العربي قبل أن يشغل منصب رئيس تحرير “مجلة الدراسات الفلسطينية” وكاتب افتتاحياتها على مدى سنوات.
نشر روايته الأولى في 1975 بعنوان “لقاء الدائرة”، وكتب سيناريو فيلم “الجبل الصغير” في 1977، الذي تدور أحداثه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ومن أعماله الأخرى “رحلة غاندي الصغير” التي تدور حول مهاجر ريفي يعيش في بيروت خلال أحداث الحرب الأهلية. وله أيضاً “أبواب المدينة”، “الوجوه البيضاء”، “باب الشمس”، “رائحة الصابون”، “يالو”، “سينالكول”، و”أولاد الغيتو” و…
وتعتبر رواية باب الشمس إعادة سرد ملحمية لحياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ نزوحهم عن قراهم ومدنهم خلال نكبتهم عام 1948، وتناولت أيضاً أفكار الذاكرة والحقيقة ورواية القصص، وقد أُنتجت كفيلم سينمائي يحمل نفس الاسم للمخرج المصري يسري نصر الله في 2002. له العديد من النصوص المسرحية والدراسات النقدية.
تُرجمت أعماله ونُشرت دولياً باللغات الكاتالانية والهولندية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والإيطالية والبرتغالية والنرويجية والإسبانية.
كذلك مارس الياس خوري التدريس الجامعي، فقد كان إلى جانب انشغاله بالرواية والصحافة أكاديمياً، فعمل أستاذاً في الجامعات اللبنانية، واللبنانية الأميركية، والأميركية في بيروت، كذلك عمل أستاذاً زائراً في أكثر من جامعة اميركية. إلى جانب الرواية، كتب أيضاً ثلاث مسرحيات وله العديد من الكتابات النقدية، إضافة الى تجربة عمله مديراً فنياً في المسرح.
نعته الهيئات والشخصيات الثقافية اللبنانية والعربية، كذلك نعته حركة فتح الفلسطينية في بيان قالت فيه “تسجّل الحركة فخرها واعتزازها بهذه القامة الروائية وبما جسّدته من إرث سيكون وثيقة لكل الأجيال السابقة واللاحقة، ولسان حق فلسطيني بلغات الإنسانية المؤمنة بنضال شعبنا الفلسطيني وصولاً للحرية والخلاص”.
حاز في عام 2011 وسام جوقة الشرف الإسباني من رتبة كومندور، وهو أعلى وسام يمنحه الملك خوان كارلوس، تكريماً لمساره الأدبي؛ وفاز بجائزة اليونسكو للثقافة العربية لعام 2011 تقديراً للجهود التي بذلها في نشر الثقافة العربية وتعريف العالم بها. وعلى جائزة فلسطين للرواية عن روايته باب الشمس 1998، وجائزة الرواية المترجمة عن رواية مملكة الغرباء 1996.
يرحل الياس خوري عنا اليوم في ذكرى مجزرتي صبرا وشاتيلا عام 1982، والنكبة الفلسطينية بدورها تتمدد على كل مساحة فلسطين وتهدد سيولها بإغراق لبنان بالدم والدمار، ويعتصر قلمه صنوف الوجع الذي عاصره منذ قدومه على الحياة مع كل ما رافقه من معاناة مصارعا بالكلمة من أجل فلسطين ولبنان وأهلهما الطيبين، وسط هذا العالم الواسع مفندا السردية الإسرائيلية بانيا مدماكا وراء مدماك في السردية والحكاية والتغريبة الفلسطينية والعربية المعاصرة.