شوقي أبي شقرا حداثتُهُ نسيجُ وحده ولغتُهُ والصورةُ والدهشةُ والفانتازيا والأسلوب

صناعةٌ جبلُ لبنانيّة ليس له شبيهٌ شعريّ ولا يتكرّر

بقلم عقل العويط

شوقي أبي شقرا، “سائق عربة” الحداثة العربيّة، نزل “سنجابُهُ” أمس (1935- 2024) من البرج، من العربة، تاركًا إيّاها تكمل مشوارها، والحكاية، والقصيدة، بقوّة دفعها الذاتيّة، وبجموحها المدهش الخلّاق. وسيُستكمل المشوار، مشوار الحداثة، بالشعراء الذين واللواتي يشرقون كلّ يومٍ من رحم الشعر والقصيدة.

لا شبيه له، شوقي أبي شقرا، بين الشعراء، وليس تقريبًا له آباء وأمّهات بين الشعراء والأدباء (بل فقط أقرباء)، وهذه صفته، وخصوصيّته، والميزة. فهو نسيح وحده. ولأنّه في الحداثة، بل منها في الصميم، هو فيها صانع حداثته الشخصيّة، والخاصّة، و”إسكافيّ” الحداثات الأخرى. لذا هو صانع لغته وأسلوبه وشكله بامتياز. لغةٌ وأسلوبٌ وشكلٌ، ليس كمثلها لغةٌ وأسلوبٌ وشكلٌ في تجارب الحداثة العربيّة كلّها.

لغةٌ، هي سورياليّةٌ فانتازيّةٌ، وصناعةٌ – جبل – لبنانيّة.
ولغتُهُ وأسلوبُهُ على ريفٍ، وخرافة، وأسطورة، وحكاية، وطفولة، وعصفور، وغبطة، وغنى، وبساطة، وابتسامة رضا، وغفيرة كـ”أكياس للفقراء”، كأحلامهم، كـ”ماء إلى حصان العائلة”، بل كـ”حديقة القدّيسة منمن”، التي تظلّ مفرفحةً وطازجةً، كالحبقة، كالبنطلون المخصّص للعيد، وكالفجلة باعتبارها زرًّا أحمر في جبّة الكاردينال.

وها هي حداثةُ شوقي أبي شقرا، التي هو صانعها، ومكتشفها، وكاشفها، ورائدها، وغابتها، هي حداثةُ اللغة المدهشة مطلقًا، والتي تفاجئ، وتكسر المتوقّع، وتعيد النظر في المصطلح، وتستغرب، وتناطح السحاب، وإذا عادت لتحطّ فإنّما ليس في الموضع المتعارف عليه، بل حيث تفتح المعنى على كلّ معنى. وربّما حيث لا يعود ثمّة لزومٌ لأيّ معنى. وكثيرًا ما يكون الأمر هكذا. ولا غضاضة.

ولغتُهُ صورةٌ، وليست أيّ صورة! يراها المتلقّي بالعين والعقل، ثمّ لا تلبث الصورة أنْ هي تسرق العين وتخلب اللبّ، إلى ملاعبها وآفاقها، فتجعلهما يزوغان، يتغبّشان، يروبصان، فيريان ما لا يُرى، فتصير الصورة صورًا متوالدةً، متلاحقة ومتداخلة ومتراكبة، ومخترعة، ومكتشفة، وكاشفة. بل كأنّها صورةٌ غير موجودة أصلًا، كمثل صور الأطفال التي ليست تمثيلًا لواقعٍ أو لمشهد. وكرسومهم، كخيالاتهم، وتهويماتهم، وتحليقاتهم، وغوصهم على عوالمهم الطفوليّة التي ليس كمثلها خيالٌ ولا صورةٌ ولا دهشة.

ولغتُهُ هي طفولةٌ. لغته هي حديقة الطفولة المطلقة. فمن أين للمتلقّي الناضج المجرّب المختبر أن يستعيد جينات طفولته هذه، معادنها، وحديقتها، ومعايير الرؤية فيها، وفنون خيالاتها؟ من أين له أنْ يخترع ما يخترعه الطفل، من دون أنْ يصطنع، ويجتهد، ويتصنّع؟ شوقي أبي شقرا فعلها. إنّه هو الذي فعلها. ولطالما كان يفعلها. ومن أجل ذلك هو صاحب لغته، ولغتُهُ هي نسيج وحده.

لغتُهُ السهلة التناول، البعيدة التناول، والتي كلّما ظننتَ أنّها اقتربتْ من الأفهام والإفهام، عادت تحلّق، وتختفي وهي أمامكَ، وتتخفّى وهي ليست، فيتحرقص المتلقّي، والناقد، والعارف، والجاهل، والشاعر، والناثر، والأستاذ، والأكاديميا، حتّى ليحتار المرء بأيّ السبل يقاربها، هل يلاحقها أم يستسلم لها، لتأخذه حيث تريد، وهي لا تريد أنْ تعلم ماذا تريد، ولا يهمّها أنْ تعلم، بل ترفض الاستجواب، والتفكيك، إلى أنْ يرى المرء ما يراه، فيأخذها كما هي، ويتفاعل معها، باعتبارها فانتازيا، أي الفانتازيا كلّها، ولا حدود، ولا مغبّة، رؤيةً ورؤيا، وتخييلًا مفتوحًا على التخييل، ومجّانيًّا حينًا، وغرائبيًّا، وهائل اللاوعي، وقريبه، وبعيده، وفي الآن نفسه توحي لكَ أنّها تجاهر بأحد مطالبها، وتفصح عن غايةٍ في نفس يعقوبها، فيظنّ المعنى أنّه قد تحقّق، وليس هو بمتحقّق، لأنّ الشكل غالبٌ، والمتعة هي المتعة كلّها، واللعب كلّه، والقفز في فراغ المبتغى، ويجدر آنذاك أنْ تتخيّل الأطفال جميعهم يسكنون تلك اللغة، ويلعبونها، باعتبارها الهديّة، والطابة، والكلّة، والحكاية.

ولغتُهُ لذّةٌ. وهي غايةُ نفسها.

لكنّ لغته هي أيضًا حكاية، بل أوّلها، لأنّ الحكاية عنده تُفتَتح ولا تكتمل، وأهميّتها أنّها تكتم، وتفرمل، وتلجم، فتكفّ، أي أنّها لا تصل إلى آخر السطر. إنّها تغيّر القافية، تكسرها، وتخربطها، ولا تستكمل ما بدأته. ففي الحين هي تهمّ بالتأليف والسرد، أي ما يوحي بالقصّ والإخبار، تراها تمتنع عن الشرح، فتطلب من الأسلوب أنْ يكون هو اللغة، وهو الحكاية. وهو الغاية. والمعنى. لكن، كيف تكون اللغة معنى؟ وكيف يكون الأسلوب معنى؟ ما دمتُ فتحتُ الباب على الأسلوب فهو أسلوبٌ له، لشوقي أبي شقرا، خاصٌّ به، ومرفّه، ومترف، ولا ينهمّ، ولا ينشغل باله بالترّهات والصغائر والنوافل.

فهو كالجنيناتي الذي صناعتُهُ الجنينة والجنّة والجنان، فأسلوبُهُ صنعتُهُ وحرفتُهُ، وبيتُهُ، ومطبخُهُ، وصالونُهُ، ومكتبتُهُ، والمصطبة، والشرفة، والسقف، والسماء، والزمهرير، والصيف، والفصول، والحروف، حروف الجرّ والنصب والرفع، وأدوات الفصل والوصل، والتركيب، والبنية، وكلّ ما تتطلّبه اللسانيّات من فائق حنكةٍ ومهارة، على خفّةٍ، وماءٍ سلسبيل، وبداهةٍ، وسذاجةٍ، ونسيمٍ عليل. وهذه كلّه أدواته الشعريّة، اللغويّة، الأسلوبيّة، الشكليّة، وهي العدّة، والعمارة.

لا يتكرّر. شوقي أبي شقرا. حداثتُهُ نسيجُ وحده. نسيجُ وحده، صورتُهُ. ولغتُهُ. وأسلوبُهُ. وشعرُهُ.

اخترنا لك