هذا الموت

بقلم عقل العويط

ولبنان موتٌ كلّه. وهو موتٌ إجباريٌّ، إكراهيٌّ، إرغاميٌّ، قسريٌّ، ولا نريده.

فليس من حياةٍ في لبنان. وليس من مدنٍ. وليس من عاصمةٍ، ولا من مرفأٍ، ولا من بحرٍ في عاصمة. وليس من قرىً. وليس من ساحاتٍ في القرى. وليس من أزقّةٍ. وليس من بيوتٍ. وليس من مصاطبَ وأبوابٍ وسطوح. وليس من مفاتيحَ. وليس من شرفاتٍ.

وليس من كراسٍ للجلوس. وليس من حبالٍ لنشر الغسيل. وليس من طبيخٍ. وليس من أرغفةِ صاجٍ وطابونٍ وخبز. وليس من بنٍّ ولا قهوة ولا فناجين. وليس من إباريق للشاي ولا من أباريق لنقطة ماء. وليس من دكاكينَ لتزجية العمر. وليس من طاولات زهر. وليس من أطفالٍ ولا ملاعب لأطفالٍ ولا مدارسَ ولا مراويلَ وليس من أقلامٍ ولا دفاتر. وليس من هررةٍ وكلابٍ أليفة. وليس من ليلٍ ولا من نهار.

وليس. ليس من فتيةٍ، ولا من شبابٍ، ولا من كهولٍ، ولا من شيوخٍ وعجزة. وليس من فتياتٍ لإرهاق القلوب. وليس من خطواتٍ على الدروب. بل ثمّةَ فقط وفقط، إباداتٌ، واستئصالاتٌ، وأرضٌ خرابٌ، ورائحةُ موتٍ عموميٍّ، وترابٌ محمومٌ، وركامٌ فاجعٌ، ودماءٌ ثكلى، ونظراتٌ، وأشلاءٌ، ومقابرُ مفتوحةٌ، وظلالُ أشجارٍ مفلوعة، وأيتامٌ، وأراملُ، وشمسٌ سقيمةٌ، وقمرٌ هزيلٌ، وحرائقُ شواءٍ بشريّ، وزيتونٌ جريحٌ، وتبغٌ مهيضٌ، وهائلٌ ومهينٌ هو فارقُ الوقت بين السماء والأرض.


في لحظةٍ ما، سَكَتْنا عليكَ أيّها الموت تهيّبًا. قلنا، وكنّا مخطئين، إنّكَ حلال. وقلنا، إنّكَ حقّ. الآن، بعد كلّ الذي جرى، ويظلّ يجري، أكان لا بدّ لنا من أنْ نكتشف (وليس من اكتشاف)، مع أنهر الدم النازف في بلادنا، أنّ هذا الموت هو حرامٌ بحرام؟!

ففي كلّ لبنان موتٌ. وفي كلّ مكانٍ وزمانٍ. وحرامٌ كلُّهُ حرامٌ.

فكيف لا نكفر بكَ، يا موت، بل كيف لا نغتالكَ، ونصلبكَ، لكي لا تعود تقوم لكَ قائمةٌ ولا قيامة؟!

فأنتَ موتٌ مريضٌ. بلا عقلٍ وبلا قلبٍ. وعبثيٌّ. وعدميٌّ. ومصّاصُ شبابٍ ومصّاصُ أرضٍ وبيوتٍ وبلاد.

لا. لن نطيّب خاطركَ، هذه المرّة.

يجب أنْ نستعيد حياتنا، كلّ حياتنا. وأنْ نقطف زيتوننا وتبغنا، ونأخذ أولادنا إلى المدارس.

لن نرجئكَ أيّها الموت إلى أمدٍ إلى غدٍ إلى بعد غد. لن نرتكب هذا الجرم، مرّةً أخرى، رأفةً بالأرض. وبالسماء. وأيضًا، رأفةً بالموت (الطبيعيّ).

لا. هذه المرّة، سيكون من الغباء، ومن الاستهانة، ومن الاستخفاف، ومن الاسترخاص، بل ومن التواطؤ، وبل أكثر: من الخيانة المطلقة، أنْ تكون ثمّة دعوةٌ إلى إرجاءٍ. أو إلى هدنة.

ولا بدّ من ختم تابوتكَ بالشمع الأحمر.

ويا موت، يجب أنْ نغلق أبوابنا في وجهكَ، بعد اليوم.

ويجب أنْ نقول إنّك موتٌ بالإجبار، وبالإكراه، وبالإرغام، وقسرًا، وبالإرهاب، ولا نريدكَ بيننا بعد اليوم، يا موت.

اخترنا لك