صدر العدد الثامن والثلاثون من مجلة ” الأمن العام”، عن المديرية العامة للأمن العام، وعلى غلافه ” الرئيس يملأ الجمهورية ” بمناسبة انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
وفي العدد افتتاحية المدير العام اللواء عباس ابراهيم، بعنوان “الاستقلال والرشد السياسي”، رأى فيها ان “ما من شعب نادى بالاستقلال كما فعل اللبنانيون وسيفعلون. فعلوا ذلك لأن وطنهم كان على الدوام محط انظار مشاريع دولية واهتمامها. قد تكون الجغرافيا التي نتغنى بها وانشدنا لها اشعارا هي السبب، لكن لعنة التاريخ كانت ايضا ذات تأثير. الاسم الموضوع على خارطة المتوسط لم يوفر له السلم من أوروبا بقدر ما جعله احتمالا متواصلا ليكون أقرب الى محمية من كونه دولة.
حضارته العميقة الضاربة في التاريخ جعلته في جوار دولة قامت على انقاض الشعب الفلسطيني، وتتبنى الصهيونية اعتقادا وفكرا، ليصبح لبنان بما هو اطار تنوع ثقافي وروحي وفكري، عدوا بالتكوين والفطرة، وتاليا مجالا للاستهداف والعدوان. الوطن الحلم، او الرسالة، او الانموذج، لم يحدث ان شعر الحاكمون والمحكومون فيه بالاستقلال الناجز او مارسوا الديموقراطية بطرقها الحديثة. فالاستقلال التام لا يعني بحال من الاحوال الانكفاء عن العالم ومجرياته، بقدر ما هو أولوية وطنية، تكرس مصلحة الجماعة اللبنانية الملتزمة دولتها وتعاقدها الحر والطوعي معها. حتى ان الحديث عن الجماعة اللبنانية، او القول بوجودها الجدي، حاصل لجماعات عدة قد يغلب على واحدة منها رغبة جامحة في استظلال فيء دولة من الدول البعيدة او القريبة”.
ويتضمن العدد وقائع لقاء ابراهيم مع اساتذة جامعة القديس يوسف وطلابها وتأكيده ان “المرحلة المقبلة صعبة ” و”الامن هو للناس لا عليهم “، مشيرا الى ان ” الرئاسة هي “ركيزة المؤسسات الدستورية “.
وفي العدد أيضا تحقيق عن الميثاقية “هل هي قاعدة دستورية ام ذريعة”؟، يتناولها الوزير رشيد درباس والوزير السابق الدكتور سليم جريصاتي، الى تحقيقات عن الذكرى 73 للاستقلال يتحدث عنها المفكر والنائب السابق سمير فرنجية والدكتور رغيد الصلح والدكتورة فاديا كيوان والدكتور سعود المولى، الى مقال للوزير بطرس حرب عن “يوم العلم” الذي أعلنه عام 1979 وكيف تحتفل المدارس به. ويتناول رئيس “مركز بيروت للابحاث والمعلومات ” عبده سعد القانون الامثل للانتخاب، وتقرير اقليمي عن الانتخابات الاميركية ودخول اول امرأة الى البيت الابيض، وتحقيق عن المدونة التي اعدتها المديرية العامة للامن العام وتتعلق بقواعد السلوك لتنظيم الاداء.
كذلك، في العدد تحقيق عن جولة ابراهيم في البقاع والجنوب وتأكيده ان ” الامن تحت السيطرة “، تحقيق عن دائرة التفتيش في المديرية، الى احصاءات الشهر والوثائق المزورة وصفحات من لبنان عن انشاء المتحف العسكري العام 1948 للعميد الركن المتقاعد ادونيس نعمة، وتحقيقات عن علاقة الاقساط المدرسية بسلسلة الرتب والرواتب وعن جدوى القروض الاستهلاكية والهندسة المالية لمصرف لبنان لحماية الليرة، إضافة الى الابواب الدائمة في الثقافة والفنون وواجهة المكتبات والتغذية والرياضة والتسلية.
ويتناول العدد الجديد ايضاً ملفاً عن الاستقلال الوطني الذي يحتفل به لبنان في النصف الثاني من هذا الشهر.
الافتتاحية
وجاء في افتتاحية ابراهيم: “ما من شعب نادى بالاستقلال كما فعل اللبنانيون وسيفعلون. فعلوا ذلك لأن وطنهم كان على الدوام محط انظار مشاريع دولية واهتمامها. قد تكون الجغرافيا التي نتغنى بها وانشدنا لها اشعارا هي السبب، لكن لعنة التاريخ كانت ايضا ذات تأثير. الاسم الموضوع على خارطة المتوسط لم يوفر له السلم من أوروبا بقدر ما جعله احتمالاً متواصلا ليكون أقرب الى محمية من كونه دولة. حضارته العميقة الضاربة في التاريخ جعلته في جوار دولة قامت على انقاض الشعب الفلسطيني، وتتبنى الصهيونية اعتقادا وفكرا، ليصبح لبنان بما هو اطار تنوع ثقافي وروحي وفكري، عدوا بالتكوين والفطرة، وتاليا مجالا للاستهداف والعدوان. الوطن الحلم، او الرسالة، او الانموذج، لم يحدث ان شعر الحاكمون والمحكومون فيه بالاستقلال الناجز او مارسوا الديموقراطية بطرقها الحديثة. فالاستقلال التام لا يعني بحال من الاحوال الانكفاء عن العالم ومجرياته، بقدر ما هو أولوية وطنية، تكرس مصلحة الجماعة اللبنانية الملتزمة دولتها وتعاقدها الحر والطوعي معها. حتى ان الحديث عن الجماعة اللبنانية، او القول بوجودها الجدي، حاصل لجماعات عدة قد يغلب على واحدة منها رغبة جامحة في استظلال فيء دولة من الدول البعيدة او القريبة.
لقد انطوى التاريخ البعيد والقريب على الكثير من المحن، وتعرض الوطن للكثير من الاحداث، وما أفلحنا من الرجوع من الخطر وعنه، لأن أوهام قوة الخارج واغراءاته التي تستحوذ وتتنقل بين الاطر السياسية المختلفة، ما زالتا تتقدمان على الاستقلال كوعي وممارسة وكمفهوم. اما تأكيد اللبنانيين على حقهم بالاستقلال وجدارتهم بانجازه، فلا يكون الا باثبات بلوغهم سن الرشد السياسي في مفهومه الوطني، وهذا لم يحصل، ويا للاسف، منذ رحيل فرنسا عنا، لأن بعدها حضرت ملائكة مصالح دول عدوة، وتداخلت أخرى لها مطامع امبراطورية، وثالثة تريد لهذا البلد ان يكون جهازا لتلقي رسائل عن مستويات الاشتباكات الإقليمية والدولية ومحطات التعارض الايديولوجي واعادة بثها، خصوصا ان لبنان الضعيف، لافتقاده وعي أهمية وحدة الحس السياسي الوطني كألف باء مواطنة في دولة مستقلة، لا حول له ولا قوة إلا اختبار التجارب وآلامها بسبب تشتت مكوناته وتوزع عواطفها إلى ما وراء الحدود.
الباعث على الاستغراب ان اللبنانيين الموسومين بأنهم اهل عقل وابداع وانفتاح، لم يجيبوا على السؤال الملح عليهم باستمرار: لماذا لم يتصدر منهم من يحمل مشروعا تحديثيا وطنيا عاما لبناء دولة استقلال حقيقية، ويجمع حوله نخبا قطعت مع ولاءاتها لصالح انتماء وطني لبناني خالص، على ان يكون هؤلاء من المؤمنين لا المتعصبين، من المدارس السياسية المختلفة، يتنافسون في الداخل وعبره لتفعيل المناعة الوطنية بإزاء أي محاولة لتطويع لبنان، او احتلاله أو جعله ساحة خلفية للصراعات الإقليمية والدولية، بينما التسويات تنعقد على حساب البلد وأهله؟
كان لبنان واعدا واستثنائيا في محيطه من حيث جمعه وضمه لجماعات متنوعة روحيا ومتعددة فكريا، وممارسته الديموقراطية وعشقه الحرية، لكن مع عدم قدرة اللبنانيين على المحافظة على دولة الاستقلال جعل من بلدهم فضيحة سياسية واخلاقية بكل المعايير. حتى الآن ما من أحد يرغب في الاجابة عن سؤال عن اسباب الوقوع الدائم للبنان على خط التراجع: هل كان في تبني افكار قومية ( فينيقية، عروبية، او ايديولوجية ) جعلت من حساسية التعقيد اللبناني استثناء على الأسئلة الكبيرة التي عصفت في سنوات ما بعد الاستقلال ؟ ام في قيام الكيان الاسرائيلي ومبادرة الدولة اللبنانية آنذاك – عن خطأ او قصور سياسي- بحصر مهماتها ودورها ببيانات ولفظيات شكلية اعتقدت فيها خلاصا، من دون المنظومة العربية كجسد كان يضج بأحلام الوحدة المستحيلة، وهو ما برر- عن خطأ وخطيئة ايضا- التواطؤ على لبنان لجعله حلبة صراع لكل القوى المتصارعة؟.
استعصاء هذه الاسئلة على الاجابة وطرح الحل، هو من صنع وهْما جديدا قوامه اننا بلد يتميز بالحرية والديموقراطية لقدرته على استيعاب كل التنويعات الآتية من وراء الحدود وهضمها، في حين ان الوقائع كانت تؤكد من دون لبس اننا مختبر تجارب للمعادلات السياسية، وأن لبنان لم يعد بلدا محكوما بآليات الديموقراطية الدستورية التي تنظم عمل الدولة وتطورها بطريقة تلقائية، انما هو بلد محكوم بتسويات داخلية مستمرة تعكس بعض الاحيان أرجحيات التسويات الخارجية، ليصبح بعدها اللبنانيون اول الخاسرين.
لم تنجح عندنا فكرة ومقولة ان ” الديموقراطية مثل أطفال الشوارع تربي نفسها بنفسها “، التي أطلقها احد مفكري كلاسيكيات العلم السياسي الفرنسي ألكسيس دوتوكفيل، لأن الديموقراطية في بلدنا لم تترك لتربي نفسها، ولم يوفر لها بيئة تنمو وتترعرع فيها، بل صارت تلزم محددات مسبقة وافكار تعني جماعات وأطر بعينها وعلى قياسها، والحرية بما هي مشغل حيوي للنظم السياسية ولتطورها، صارت ايضا حاجة الى اعادة تعريف يعيد الاعتبار اليها، بعدما صارت مطية لكل اطار على حدة وبما يلائم اهدافه من دون الاخذ بالمصلحة الوطنية وحريات الاخرين.
ألم يمل اللبنانيون من أزماتهم المتراكمة والمتفاقمة، ومن انتظار الخارج ليقدم لهم حلولا وكأنها أقدار شاءها الخالق ولا يمكن تغييرها ؟ فهم قادرون على اجتراح الحلول الوطنية الجامعة، ورذل كل عوامل الانقسامات أيا تكن صفة النبل التي ترفعها، شرط المراهنة على وحدتهم ودولتهم فقط، وأن لا يشركوا معهما شيئا.
قد يكون القفز فوق الماضي الأليم في حاجة إلى خطاب سياسي كثيف ودقيق، كذاك الذي أطلقه الراحل الكبير غسان تويني وهو يقف امام جثمان ابنه بعيد اغتياله، إذ قال: ” لندفن الحقد والثأر”. فمن حق اللبنانيين أن يعيشوا في دولة، وان يشعروا بأنهم مواطنون وكراماتهم مصانة ومحفوظة، وبأنهم محكومون ومحتكمون بالقانون ولا شيء غير القانون. عندئذ يمكن القول اننا انجزنا الاستقلال التام ونمارسه كحق وبمسؤولية”.