بينما تشتغل الأنوف بحثاً عن مكونات الطبخة الحكومية، وتمحيصاً في أسماء أصحاب المعالي ممن ستسقط عليهم نعمة الوزارة، من جديد أو للمرة الأولى، سيصعب عليك أن تقع على مستوزر غير مبال بما يتسرّب من “الخابية” الحكومية من تركيبات ومناقلات، خصوصاً وأنّه يتنقل برشاقة من تركيبة الى أخرى… ملحم الرياشي يفعلها.
يدير ظهره للعجقة الحكومية بتعقيداتها وتنازلاتها، ويدعو أصدقاءه بأبسط الطرق وأسهلها (الواتس اب) لحضور حفل توقيع كتابيه “يهوذا الاسخريوطي” و”العتب”، وكأنه يدعوهم الى ارتشاف فنجان قهوة يمكن خلاله التحدث في أي موضوع إلا اليوميات السياسية.
باستطاعته تأجيل أي موعد رسمي مهم، لأنه ملتزم بواجبه كأستاذ جامعي يعطي مادة الاستراتيجيا ووكالات الأنباء. يترك السياسة و”وجع راسها” ليدخل صفه “ديكتاتوراً”، كما يبلغ تلاميذه مع بداية كل عام. يقولها أمامهم “زي ما هي”: الديموقراطية تنتهي صلاحيتها عند حدود مكتبي. لا مزح في الدرس والواجبات. ومع ذلك طلابه من مشجعيه الأوائل.
لا يمكن لملحم الرياشي أن يكون نموذجاً نمطياً لأي ممن حوله. في كل شيء. في هندامه الخارجي، وذلك الداخلي. في تواضعه، في مقاربته للحياة، للسياسة، للبنان النموذج، للمسيحيين والحاجة اليهم، للنفوذ، للموقع… وحتى لأدوات شغل “السلطة”.
ثمة دوماً نفحة فلسفية، تأخذ في بعض الأحيان منحى لاهوتياً يعكس علاقته المميزة بالكنيسة، كفلسفة وفكر وليس كأشخاص أو مؤسسة.
لا شيء يأخذه من عالمه الصغير: الكتب، الموسيقى، والسينما. هذه أولويات بالنسبة له، إذا لم نقل “قوته الروحي”. مهما تسلطت الأضواء عليه، يفضّل دوماً الظل، لا خوفاً من النجومية ولكن إيماناً بالفعل والجهد.
مهما قيل عن دوره في المصالحة المسيحية بين ميشال عون وسمير جعجع، وعن أهدافها “المصلحية”، يبقى هو أكثر من يعطيها بعداً وجدانياً. يعتبرها رسالة ولم تكن واجباً أو مهمة محصنة بثقة جعجع، وحرص على تنفيذها بحرفية وذكاء وطول صبر.
بنظره المصالحة قضية حدودها أبعد من دعم الجنرال للرئاسة أو تقاسم حصص وزارية ونيابية وادارية. صحيح أنّ فيها أهدافاً سلطوية، ولكن فيها أيضاً وجهاً جوهرياً تتعلق بمصير المسيحيين، وبنموذجية لبنان الذي يخسر فرادته اذا ضعف المسيحيون، وهؤلاء سيذوبون حكماً اذا استمروا في صراعاتهم. ولهذا كان لا بدّ من مشروع يسبح عكس السائد لوقف الاستنزاف القاتل.
وبمجرد استعادة شريط “المصالحة المستحيلة” التي خاضها بين ألبير مخيبر (الذي يترك أثراً كبيراً في شخصه كأب روحي) وميشال المر، عشية انتخابات العام 2000، للتأكد من أن الرجل يهوى تسلّق جبال المهمات الصعبة. ولا يتوانى عن فعلها.
لا يمكن لك أن تجرّ ملحم الرياشي الى نقاش سياسي جاف، يقتصر على فحوى لقاء فلان بعلتان، أو على نميمة من هنا أو ثرثرة من هناك. يأخذك دوماً الى مصطلحاته وتعابيره، واذا ما “شطح” أكثر ستجد نفسك في “عالم آخر”… لينتهي الحديث مثلاً على طريقة إنّ “السيد المسيح هو أعظم سياسي عرفه التاريخ كونه قاد ثورة على كل المفاهيم التي كانت سائدة في زمانه، ولا تزال حتى اللحظة شعلتها حيّة”.