بعد 20 عاماً، أذكر اسمها، صوتها، وحتى نوع سيارتها ولونها.
في فترة مفصلية من مرحلة الدراسة، المعلّمة هي مَن احتوت وشرحت لتلميذة قرار أهلها نقلها إلى مدرسة أخرى من دون أيّ تحضيرٍ أو تمهيد.
لربّما يسكُن اليوم في جنّة «الله» ويناقشُه وجهاً لوجه ويُخبره عن ممارساتِ رجال الدين على الأرض. هو أوّل مَن اكتشف مقدرةً على الكتابة عند تلميذة تَخجل من أن تُعبّر وترفض القراءة، وأهداها بحنكته أوّلَ إنجازٍ لها وأوّلَ شهادة وأوّلَ موسوعة أدبية.
والأهمّ علّمها التفكير والتحرّر.
بعد 16 عاماً ما زالت تسكن رائحةُ سيجارته وابتسامتُه الساخرة في ذاكرة العين والعقل…
منذ نحو عامين فقط، حنان عينيها، جاذبية معرفتها، طريقتها الباهرة، لغة خبرتها واهتمامها الأمومي غير المحدود بدمٍ غير محسوس…
صفات مُعلِّمة ضخّت الحماسة بقلمي من جديد وأرتني بعينيها ما لم يسكن عينيّ قبلاً، فسلكتُ طريقاً أوصلتني إلى هنا، حيثُ أفرغ حمولة حقائبي.
يتعلّم الطالب في كلية الإعلام الكتابة الموضوعية المتجرّدة التي أساسها خبرٌ ومعلومة.
كما يتعلّم أنّ الكتابة الذاتية ضرورية في عدد من المناسبات، كي تُسخَّر كرسالة تَمُسّ القارئ وتُريه أنّ الكاتب يُشاركه أموراً شخصية وهموماً يومية، ولا يكتفي بضخّه بالمعلومات من بعيد أو بالإغداق عليه بالتحاليل والنظريات.
من منّا لم «يُعلِّم» فيه مُعلِّم؟ من منّا لم يُساهم معلّم أو أكثر ببناء مستقبله، وطريقة تفكيره وتحقيق طموحاته… فإن تكلّم المُعلِّم، ماذا يقول اليوم للأهل؟
حوارات مع عدد من الأساتذة والمسؤولين عن التلامذة في أكثر من مدرسة خاصة ورسمية، تُظهر أنّ تعامل الأهل والتلامذة مع المعلّم اختلف عمّا قبل، وكذلك نظرتهم لدوره.
في السابق كان الأستاذ دائماً على حقّ، اليوم التلميذ دائماً على حقّ.
المجتمع الأوّل الأساس في حياة الإنسان هو المدرسة، حيث يقضي 15 عاماً من عمره كحدٍّ أدنى، وينمو مع تلامذة رفاق ويقضي وقتاً معهم أكثر ممّا يقضي وقتاً مع إخوته.
هناك، حيث يكبر و»يتربّى» على أيدي أساتذة يرافقونه أحياناً لسنواتٍ عديدة، ويتحادث ويتناقش معهم أكثر ممّا يتحدّث إلى أهله.
في المدرسة يتعلّم الالتزامَ والانضباط، المنطقَ والأخلاق…
في المدرسة يكتشف أو تُكتشف مواهبُه وقدراتُه وميزاتُه…
في المدرسة يعيش تجارب تُساهم بجبل نضوجه.
فيسأل المُعلّم اليوم الأهل: أنا الإنسان المتعلِّم المُثقَّف الذي يقضي غالبية وقته مع أولادكم، يعتني بهم، ينتبه لهم، يعلّمهم، يفتح أذنيه وقلبه لمخاوفهم وتساؤلاتهم، يرشدهم ويحفّزهم…
لماذا يُلام ويتعرّض للإهانة وتُقدّم الشكاوى عنه إلى إدارة المدرسة، إن وبّخ تلميذاً أو نَهَره أو قاصصه لأنّه أخطأ؟
كيف سيعرف الخطأ من الصح إن لم يتعلّم أن يَسمع أوّلاً؟
وأن ينفّذ في أحيانٍ كثيرة لأنّ عمره ووعيه يفرضان ذلك؟ (غير المقصود أي نوع من أنواع التعنيف).
كم من أستاذٍ هو نفسه الذي علّمكم، ويُعلّم أولادكم اليوم، لماذا تُمعنون في تدمير دوره التربوي، خصوصاً إن كان وقتكم وعملكم لا يسمحان لكم بلعب هذا الدور على أكمل وجه.
مسؤولةٌ عن التلامذة في واحدة من أهم المدارس الخاصة في لبنان، كانت هي بدورها تلميذةَ هذه المدرسة، تُخبر بتفاجُؤ عن الفرق بين «إيامنا» في المدرسة و«إيام» هذا الجيل.
وتقول: «ما زلت لغاية اليوم إن التقيت بأحد أساتذتي في أروقة المدرسة، أحيّيه بخجل وأشعر حياله باحترام وامتنان لا يوصفان».
ولكنّ معظم الأولاد لا يتعاملون معي بهذه الطريقة، ولا حتى الأهالي.
حديث التلامذة الدائم يتمحور حول الألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأحياناً أظنّ أنّ «هذه الأجيال» خُلِقت صمّاء.
أكثر ما يُتعبني أنهم لا يسمعون، وغير مسموح أن نرفع صوتنا أو حتى أن نمسك الولد بيده لنمنعه من ضرب ولد آخر أو رمي شيء…»
نسألها عن الذي تطلبه من الأهل، فتجيب «أن يسمعونا فقط، ويعلّموا أولادهم أن يسمعوا. وأن يَعلَموا أننا نحب أولادهم ونقوم بواجبنا ولا «نتبلّى» على أحد. لنتساعد في تربية جيلٍ صالح، فبذورُ الفساد أو الإصلاح تُزرع في المرحلة الدراسية».
تشكو إحدى المعلّمات في واحدة من «أرقى» و»أغلى» المدارس في لبنان، من قرارٍ جديد للإدارة بمنع التلامذة من تقديم الهدايا للأساتذة في يوم عيد المعلّم. وتقول «حتى هذه الهدية استكتروها علينا مرّة بالسنة».
لهذه الهدية وبالتالي القرار، أبعادٌ عدة، فليست قيمة الهدية مادية، كما أنه ليس المطلوب أن تشكّل عبئاً إضافياً على كاهل الأهل (إن كانت تشكّل في هذه الأيام عبئاً مادياً).
الهدية للمعلّم في يومه هي جزءٌ تربوي أيضاً، فمن خلالها يتعلّم الولد-التلميذ الشُكر وإظهار الامتنان، فهو بالهدية ومهما كانت رمزية يقول «شكراً» للمعلّم، على وقته وجهده وتعبه…
تماماً كما يقول «شكراً» لوالدته في يوم عيد الأمهات ولوالده في يوم عيد الآباء… هذه الهدية تعلّم الولد أن يعبّر أيضاً وأن يستخدم مخيّلته حتى لصنع هدية للمعلّم.
أستاذ مُخضرم، قضى 35 سنة من عمره يُعلّم أجيالاً من الطلاب، وما زال هو بدوره طالباً.
لا يكفّ عن القراءة ولا يتعب من البحث، تزيّن جدران مكتبه أو «مكتبته» لغاية الآن 5 شهادات.
يعلّم في مدرسة خاصة وأخرى رسمية، كما يُعطي دروساً خصوصية، يتساءل بأسى ظاهر في تقطعات جبينه ونظراته الثابتة، ما الذي يمنع بعض الأهالي من أن يتابعوا ولدهم؟
يُهملونه طيلة العام الدراسي، وعندما يعلمون في نهاية السنة أنه رسِب، يُسرعون إلى المدرسة ويفرغون الاتهامات ولا تخطئ رصاصاتها أحداً من المعنيين.
«عم ندفع مصاري بلاوي تيُسقط»؟
ويستطرد الأستاذ الذي من ضمن شهاداته الخمس، واحدة في علم النفس، مشيراً إلى أنّ هذه الجملة لها وقع مُدمِّر على التلميذ، فهي تُبيّن له أنّ أهله لا يهتمون به وبنجاحه، بل كلّ ما يهمّهم المال الذي يصرفونه على تعليمه، ما يهدّ ثقته بنفسه ويحطّ من قدراته ويؤدّي إلى قيامه بردة فعل عكسية، فيتراخى ولا يبذل جهداً للتعويض والنجاح.
ويطلب الأستاذ من الأهل أن يتحمّلوا مسؤولياتهم تجاه أولادهم ولا يرمونها على الأساتذة، وأن يتابعوا ولدهم ويحاوروه نصف ساعة فقط يومياً، ويسألوا عنه شهرياً في المدرسة.
السلسلة تطول…
وهي غير مُقتصرة على الحقوق المالية.
المعلّم هو حقاً رسولٌ. الرسول الفعلي المرئي، لا تُقدّسوه، ولكن لا ترجموه.
إن جرّدتموه من ثوبه، انعكس عُريه عوراتٍ وشواذاً وفساداً في خيّاطي رداءِ أيّام مستقبلية من خيوط نور المعرفة أو ظلام الجَهل.
راكيل عتيِّق – جريدةالجمهورية