تصاعدت أخيراً في لبنان حدة الخطاب الطائفي بين الأطراف والقوى السياسية والحزبية، ولم تعد هذه القوى تخفي هواجسها الطائفية والمذهبية بالنسبة إلى وضع قانون جديد للانتخابات.
فالتيار الوطني الحر، الذي كان يقدِّم نفسه تياراً عابراً للطوائف والمناطق، أصبح يركز «على استعادة حقوق المسيحيين ومواجهة هيمنة الطوائف الأخرى»، والقوات اللبنانية «تعتبر أن من الأولويات في هذه المرحلة تصحيح التمثيل المسيحي»، وهي تراهن على تحالفها مع التيار لتعزيز حضورها النيابي والشعبي.
أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فهو يعطي الأولوية لحماية تمثيل الدروز وكيفية الاحتفاظ بدوره الأساسي على الصعيد الدرزي، في حين أن حزب الله وحركة أمل يعتبران انهما ليس لديهما مشكلة على صعيد التمثيل الشيعي، لذا فهما يمكن أن يقبلا بأي قانون للانتخابات تقبل به كل الأطراف الأخرى.
أما «تيار المستقبل» فهو غير قلق على حضوره السني في هذه المرحلة، رغم كل المشكلات التي يواجهها.
وباستثناء الحزب الشيوعي اللبناني وبعض مؤسسات المجتمع المدني وقوى يسارية أو ديمقراطية محدودة تتحدث عن التمثيل خارج الاطار الطائفي، فإننا لم نعد نسمع كثيراً عن التيارات الوطنية والمدنية العابرة للطوائف والداعية إلى الدفاع عن حقوق المواطنين اللبنانيين كلهم، لا مجرد أتباع للطوائف والمذاهب.
فهل يمكن ان تنشأ تيارات عابرة للطوائف في المرحلة الحالية؟
وماذا يمكن ان تقدم هذه التيارات؟
الدعوات لإنشاء أطر جديدة
لقد برزت أخيراً بعض الدعوات من أجل تشكيل أطر وطنية غير طائفية أو مذهبية، ومنها دعوة «لقاء سيدة الجبل» (المكوَّن أساساً من شخصيات مسيحية كانت ضمن قوى 14 آذار ويشرف عليه النائب السابق فارس سعيد)، «إلى انشاء إطار سياسي وطني جديد لضمان الدستور والعمل بعيداً عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية»، كذلك يحرص الرئيس حسين الحسيني دائماً على التأكيد «أن لبنان دولة مدنية تحترم الأديان وانه يجب العمل لتطبيق الدستور والطائف عبر وضع قانون انتخابات خارج القيد الطائفي مع تشكيل مجلس الشيوخ».
ويرأس الرئيس الحسيني «المركز المدني للمبادرة الوطنية» وهو يضم شخصيات متنوعة ويركز على قيام الدولة المدنية وحماية الدستور.
كذلك تنشط «حركة مواطنون ومواطنات» التي يشرف عليها الوزير السابق شربل نحاس وشخصيات متنوعة في الدعوة إلى قيام حركة وطنية بعيداً عن الحسابات الطائفية والمذهبية، وتحاول «حركة التجدد الديمقراطي» (التي أسسها النائب الراحل نسيب لحود) تنشيط دورها وحضورها السياسي من أجل مواجهة الأجواء الطائفية.
وتشهد حركة اليسار الديمقراطي (المنشقة عن الحزب الشيوعي اللبناني) نقاشات داخلية لإعادة تفعيل حضورها وعدم ربط موقعها ودورها بتيار المستقبل أو القوى السابقة في «قوى 14 آذار»، كذلك ينشط حزب جديد باسم «حزب السبعة» لتقديم نمط جديد في العمل السياسي.
ويضاف إلى ذلك المجموعات الشبابية التي نشطت سابقاً في اطار الحراك المدني والتحركات الشعبية، والتي تتحرك بين فترة وأخرى من خلال حملات شعبية لمواجهة الفساد والدعوة إلى وضع قانون جديد للانتخابات ورفض الأجواء الطائفية والمذهبية، كذلك أطلق «ملتقى الأديان والثقافات» الذي أسسه العلامة السيد علي فضل الله عدة مبادرات لتعزيز السلم الأهلي ومواجهة التحريض المذهبي.
مبادرة إنقاذية جديدة؟
فهل تستطيع هذه القوى التيارات والمجموعات المدنية واللاطائفية إطلاق مبادرة انقاذية جديدة لمواجهة الخطاب الطائفي والمذهبي في هذه المرحلة؟
أم أن هذه السجالات الطائفية والمذهبية ستزداد في ظل النقاشات الدائرة على صعيد اقرار قانون جديد للانتخابات واعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني؟
تعتبر مصادر سياسية مطلعة ان المرحلة الحالية في لبنان هي مرحلة انتقالية تحاول فيها كل الأطراف اعادة ترتيب دورها وموقعها في النظام السياسي اللبناني، بعد ان شهدنا سنوات عديدة من الواقع السياسي المحكوم إما بنتائج الحرب الأهلية أو بالطريقة الخاطئة في تطبيق اتفاق الطائف في خلال مرحلة الوجود السوري أو بسبب تصاعد الأجواء الطائفية والمذهبية منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وحتى اليوم.
وتضيف المصادر: رغم ان اتفاق الطائف قد لحظ ابقاء التمثيل النيابي بين المسلمين والمسيحيين مناصفة إلى حين قيام مجلس نيابي غير طائفي وتشكيل مجلس الشيوخ ووضع آلية لإلغاء الطائفية السياسية، فإن السنوات الماضية ولا سيما منذ عام 1992 وحتى اليوم لم تشهد تمثيلاً متوازناً بين المسلمين والمسيحيين، ولقد سعت القوى المسيحية لتصحيح هذا التمثيل إما من خلال تحالفاتها السياسية أو عبر بعض قوانين الانتخابات أو معركة رئاسة الجمهورية.
وتعتبر هذه القوى ان هذه المرحلة هي الأفضل لإعادة تصحيح التمثيل المسيحي. في المقابل، فإن الحزب التقدمي الاشتراكي والدروز يشعرون بأن هناك محاولة لتقزيم دورهم السياسي والشعبي في ظل التحالفات السياسية الجديدة وتراجع الدور المحوري لهم في المشهد الداخلي.
وتتابع هذه المصادر: واما على الصعيد السني والشيعي، فإن الأطراف السياسية في هذه البيئات لا تشعر بالقلق على دورها وموقعها، إن بسبب الجانب الديمغرافي أو نظراً إلى امتلاك هذه الأطراف لعناصر متعددة من القوة في السلطة وخارجها، ولذلك فهي لا تنطلق في مواقفها من ناحية تعزيز الحضور أو الدفاع عن الوجود، بل من خلال الحفاظ على شبكة المصالح المتعددة لها داخلياً وخارجياً.
وكل هذه المعطيات تفسر حدة الخطاب والمواقف الطائفية والمذهبية التي برزت أخيراً والتي كادت تعيد الوضع اللبناني الى أجواء الحرب الأهلية، رغم ان معظم الأطراف اللبنانية لا تريد العودة للحرب الداخلية.
لكن هل يمكن اطلاق مبادرة انقاذية جامعة تخفف من الأجواء الطائفية والمذهبية؟
تجيب المصادر السياسية: رغم كثرة المبادرات واللقاءات الهادفة إلى إطلاق مبادرات انقاذية أو عقد لقاءات وطنية عابرة للطوائف، فإن الأوضاع اللبنانية الداخلية في ظل ازدياد الصراعات في المنطقة، لا تسمح حالياً بإطلاق مبادرات انقاذية غير تقليدية، وكل ما يمكن التوصل إليه تخفيف الاحتقان والعمل لإنجاز تسوية جديدة تساعد في اجراء الانتخابات النيابية وتحقق بعض التقدم في تطوير النظام السياسي اللبناني.
وتختم المصادر: إنّ الوضع اللبناني اليوم غير مستعد لعمل انقاذي كبير، وان كان المطلوب تكثيف المبادرات والمحاولات للبحث عن حلول للأزمة الحالية، لكن المصالح الحزبية والطائفية والمذهبية التي تحكم القوى اللبنانية تتقدم المصالح الوطنية العامة، ولذا لن يحصل تجاوب حقيقي مع المبادرات الانقاذية، والأهم اليوم حماية السلم الأهلي والاستقرار الداخلي، أما الإصلاح الشامل فهو يتطلب ظروفاً سياسية داخلية وخارجية غير مبلورة حالياً.
قاسم قصير