الشيخ العاملي مشاركاً في مؤتمر موسكو : الأديان تواجه أخطاراً وجودية

الأديان وتحديات العصر

كلمة العلامة الشيخ محمد علي الحاج العاملي خلال فعاليات الحج الدوري الذي تنظمه “جماعة الحياة الحقيقية في الله” في العاصمة الروسية موسكو، ٤ أيلول ٢٠١٧.

توطئة

مع كل منجزات عالمنا اليوم، وبعدما مرّت الأديان بمراحل متنوّعة، صعوداً وانحداراً؛ أضحى لزاماً علينا الإجابة عن جملة تساؤلات فرضت نفسها على واقعنا، منها :

  • أي دور للدين يفترض أن يضطلع به في عصر العولمة، ومع طغيان السياسة وتصدرها بفعل المنظومات الاقتصادية والعسكرية ؟!

  • ما هو السبيل لبث مفاهيم تقدّمية متنوّرة في الأديان مواكبةً للعصر، وكي لا تتخلف مسيرة الأديان عن ركب الحضارة الراهن ؟!

  • أي علاقة ينبغي أن تسود بين أديان كوكب الأرض بعد انفتاح الشعوب على بعضها بفعل وسائل التواصل المتطورة ؟!

  • بل هل مازالت الحاجة للدين مستمرةً في عصرنا الراهن، لاسيما في ظل التقدم المادي الهائل ؟!

وهكذا، تتكاثر الإشكالات والأسئلة حول دور الأديان ومستقبلها.

لكن بدايةً ينبغي الاعتراف بأن أخطاراً وجوديةً – إن صح التعبير – تهدد الأديان، جراء عوامل عدة، وكأن الأديان – مع كل خبراتها – لم تتصالح مع مجتمعات عصرنا !

وأساليبها وأدبياتها ما زالت متخلفةً عن العصر الحديث! و لم يتموضع الدين في حيّزه الخاص، دون إجحاف أو تعدٍ، إجحاف بحق الدين، أو تعدٍ على مساحات ليست من شأن الدين ..

بمعنى آخر لم ينتظم عمل الدين في مساحته المخصوصة بشكل تلقائي إنسيابي؛ وهذا ما يفسِّر الهوة العميقة بين عصرنا والأديان .

آفاق الدين في القرن الواحد والعشرين

بعدما راكمت الأديان تجارب عريقة خبرتها في فترات زمنية طويلة، لاسيما تلك الأديان التي سبقت الإسلام، وعقب انتشار الصراعات الدموية بخلفيات مذهبية مقيتة بين المسلمين، وفي المجتمعات العربية، من فترة ما اصطلح على تسميته ب (الربيع العربي)، وفي ظل تنامي الإسلام السياسي؛ فقد آن لنا أن نتحدث بموضوعية وصراحة، حول شؤون وشجون الدين، وحول دوره المطلوب في عالمنا المعاصر.

لذلك ينبغي الإشارة لجملة نقاط سريعة :

  • أولاً : بين “الإيمان” و “الدين” :

ينصب تركيز الناس – بشكل عام – على المظاهر الدينية، بما فيها الطقوس التي قد تتحول لمجرد عادات جوفاء، دون الولوج لعمق الإيمان الصادق المطلوب أن يتجذّر في نفوسنا.

فرق شاسع بين “الإيمان” بالله تعالى الذي هو الركيزة الأساسية، والجوهر، وبين “الأديان”، ومظاهرها، وطقوسها، التي تختلف من شعب لآخر، ومن دين لآخر، بل تتغير بفعل عوامل الزمن .. وتالياً فالتأثير البشري واضح في المنظومات الدينية كافة، هذا إذا لم نقل بأن

معظم أدبيات الأديان وفكرها صناعة بشرية.

وعليه، فالإيمان مساحة مشتركة بين كل المؤمنين بالله عزوجل، بخلاف الأطر الدينية التي تختلف في الشكل بين دين وآخر، بل بين مذهب وآخر أيضاً.

واليوم، أضحينا ملزمين لأن نزيد من احترامنا للمؤمنين، كل المؤمنين، ولو اختلفوا بشكل الطقوس، وطريقتها، وسواها من أمور تمثل القشور.

وإذا تمكّنا من استبدال تركيزنا على مظاهر الدين إلى التركيز على جوهر الإيمان؛ إذ ذاك ستتسع مساحة المشتركات بين أتباع الأديان إلى حدود بعيدة.

– ثانياً : التنوّع، وأهميته :

إنّ ” التنوّع” هو سنّة الله في خلقه، بل هو مصدر القيمة الحقيقية للبشر، فلا معنى للكائن البشري ذي النسخ المتكررة والمتشابهة، وما أنتجته البشرية من تطوّر كان انعكاساً لقابلية التنوع والاختلاف الموجودة لدى البشر، حيث إنه الوسيلة لتغيير الواقع واجتراح وسائل أميز للعيش والحياة.

وهذا ما يجب أن نعيه على المستويات الفكرية والروحية والعقيدية .. فالتنوع في هذه المجالات أيضاً هو مصدر غنى ورقي .. ومتى ما انطلقنا من هذه الثابتة فحينها تتلاشى المنغصات فيما بين أتباع الأديان المختلفة.

– ثالثاً : انحسار الهوة بين الأديان :

طبيعة التجارب والخبرات التي اكتسبتها الأديان ستجعل الهوة بينها تضيق، وسيشهد المستقبل تقارباً حتمياً، حيث إن الأمور ستوضع في نصابها، إلى أن تتموضع الأديان قاطبةً في خندق واحد، رغم اختلافها في بعض الرؤى والطقوس، لكنّ الحيز الأهم الذي سيتحكم في مسارها هو دائرة همومها، التي تشترك فيها كل الأديان، و كذلك آفاقها وتحدّياتها.

– رابعاً : لربيع إيماني :

بعدما اندلع في منطقتنا “الربيع العربي” – الهادف لإصلاح بنية الأنظمة التي تعاني من أمراض سياسية جمّة، على مستوى قمع الحريات، وعدم تداول السلطة، والاستبداد – فقد دعوتُ وقتها للشروع بربيع من نوع آخر، أطلقتُ عليه “الربيع الإيماني”، طبعاً هذا الربيع لا يخضع لحدود دين أو جغرافية ..

فإصلاح الجوانب الروحية يمثل جوهر الدين وغايته، وصلاح روح الإنسان مدخل طبيعي لإصلاح المجتمعات، وهذا ما يكون بالتوازن بين حياة البشر الروحية والمادية، وبعدما يشبع الإنسان جوعه الروحي، ويغذي فكره بالقيم والمبادئ .. عندها لا يرجى من هذا الإنسان إلا الخير، ويصبح كما النحل ” لا يضع إلا رحيقاً ” .

الجسر الذي يجمعنا

حسناً فعلتم بتبني شعار “الجسر الذي يجمعنا” لأننا واقعاً بحاجة لمد جسور بين كل المختلفين، فكرياً وسياسياً وعرقياً وإيديولوجياً .. فهذا الاختلاف – كما أسلفنا – سنة الله في خلقه، وشأن بشري يرافقنا في مسيرتنا على هذا الكوكب.

وتعليقاً على هذا الشعار فإن ما يجمعنا كثير، بل وكثير جداً.

أ – الإخوة الإنسانية :

هي الجامع الأساس، فكلنا أبناء آدم، وتالياً فكلنا إخوة بالإنسانية، ولا أشرف من هذه الرابطة.

ب – خلافة الله في أرضه :

إنّ هذا الكوكب الذي نعيش في رحابه الفسيح هو بيتنا الكبير، ومسؤوليتنا الحفاظ عليه، وتطويره، وهو أمانة في أعناقنا، وكلنا نشترك في إدارته.

ج – الإيمان بالله تعالى :

هو الذي أوجدنا، ثم اختلفنا في وتعاليمه، لكننا لم نختلف على وجوده، والإيمان به

د – المصير الواحد :

كلنا مقبلون للرحيل عن هذه الدنيا والسفر إلى رحاب الله تعالى، فالموت مصيرنا، وهو يجمعنا، ونحن في رحلة واحدة، في قطار الموت، الذي سينقلنا إلى مكان نجهله راهناً، لكننا سنلتقي عنده مجدداً.. وسنجتمع فيه .

وعليه يجمعنا الله والحياة والمآل.

السلام العالمي

كي لا أطيل – وقد أطلتُ – أختم :

بعد كل خبرات البشر في هذه الألفيات المتتالية من السنين؛ آن لنا أن ندرك بأن السلام هو نتاج الإرادة الخيرة لدى الكائن البشري، وهو نتيجة العمل على تهذيب النفس وترويضها، ما يولّد سلاماً داخلياً وينعكس سلاماً اجتماعياً وسياسياً.

والأديان – كما الأنظمة السياسية – انعكاس لعمل الإنسان وثقافته وفهمه ووعيه .. وهذه الأديان والدول لا تعطي السلام إلا متى ما كان إنسانها يتحلى به.

فهو الإنسان الذي يطبع الدول بطابعه، كما يطبع الأديان بطابعه؛ لذا الأجدى أن نطلب السلام من الإنسان مباشرة، بمعزل عن ميوله الدينية، التي قد لا تملك وصفةً سحريةً.

الحج

أخيراً،

لا أتصور أن في محضرنا كلام فكري أعمق من هذا المشهد، فهذا “الحج” الميداني المشترك هو أبلغ تعبير، وأجدى من البحوث الفكرية، في تبيين أبعاد ومرامي الأديان السماوية، وغير السماوية.

أن نحجّ معاً، يعني أننا تجاوزنا الكثير من المعوقات الاجتماعية التي تلبس رداء الدين غالباً، فكل معوّق للقاء بين المختلفين دينياً هو ذو منشأ غير ديني. فلا يمكن لأي منظومة دينية سماوية أن تتضمن إلا الخير العام لكل بني البشر، دون الأنماط الإجتماعية التي قد يمارسها بعض أتباع الأديان، والتي فيها شيء من التمييز ضد أتباع الأديان الأخرى .. وهذا بعيد عن روحية الأديان السمحة كلها.

وهذا “الحج” هو عمل روحي يحبه الله، وكله خير للإنسانية، ولا يقل أجره الأخروي عن العبادات والطقوس التي نمارسها .. وهو بالتالي عبادة كونية وليس مجرد نزهة !

اجتماعنا هو مسؤولية، ومجرد لقائنا هو قيمة لنا، قيمة بشرية، تفرض علينا مزيداً من المسؤوليات الإنسانية – الدينية، لنكون رسل خير وسلام ومحبة وتواصل بين كل البشر، بكل ثقافاتهم وأديانهم وأجناسهم.

على أمل أن نلتقي بحج جديد، ولحينه، يبقى هذا الحج مسؤولية في أعناقنا، في روحيته وخلفيته، بأن نترجم خبرات هذا الحج المتكرر، واستثمار ذلك في مجتمعاتنا.

يبقى واجب الشكر للسيدة القديرة ڤاسولا ريدن، ولجميع العاملين في “الحياة الحقيقية بالله” وللبلد المضيف روسيا.

اخترنا لك