إرتدى الخضر والبرتقاليّون الخوذ ونزلوا ميدان المعركة محمّلين بمفردات بائدة يعاد استخدامها حديثاً، وبتراكمات تصلح لتحركيهم وفق ما تشتهي الازمة.
66 ثانية كانت كفيلة بتفجير الايجابيات التي استلادها حزب الله بشق الانفس خلال الـ24 ساعة التي سبقت “غارة باسيل”، وفرضت صورة نمطية عن نزاع قد يتحول في لحظة تخلٍ الى جموح قد يبلغ مستويات غير مرغوبٍ فيها.
وإذا كانت رصاصة “معارض صربي” قد استقرت في جسد ولي عهد النمسا فرانس فرديناند فاصابته في مقتل واسفرت شظاياها عن تغيير في التوازنات مما ادى لاندلاع حرب عالميّة ثانية حَصدت زهاء الـ70 مليون ضحيّة، فإن “قنص” معارضة طائشة لـ”شرود باسيل” تصلح لحمل نفس القيمة المعنويّة لتصل درجة الاغتيال السياسي، والتسبب برصاصة نقلت حرباً من السياسة إلى الميدان وليس من السهل اخماد نيرانها.
وفي حين اشتد وَطيس المعارك الالكترونيّة وبدا غبارها مرتفعاً اكثر من اللزوم، غير مفرقٍ بين سياسي ومدني، تهيّب اصحاب الخوذ البيضاء اللحظة المتفجّرة وبدأوا جهودهم لانتشال المواجهة من قعر المأزق ضمن الحد المسموح به.
الجدّيين العقلاء الذين اخذوا يتابعون مجريات الامور وتحليلها، افتتحوا ورشة عمل منشغلين في البحث عن حلول جنّدوا أنفسهم مع جميع خطوط الاتصال، المسموحة وغير المسموحة، خدمةً لها، مقدمين النصائح بحكم العلاقات المتداخلة.
وقد خلص هؤلاء الى قراءتين:
أولى توافقهم حول أن كلام باسيل “خروج عن آداب الحديث والتخاطب بين السياسيين، واستجداء مفردات كان من اللزوم عدم استخدامها، في وقتٍ كانت المساعي تتبلور باتجاه رأب الصدع”.
ثانية حيث باتوا في إقتناعٍ تام من امرهم، أن المشكل الحاصل اليوم بات يتجاوز أزمة مرسوم الاقدميّة لضباط دورة عام 1994، وبات واضح من خلال دراسة السياق كاملاً منذ بدء الازمة وحتى اليوم، ان المرسوم لم يكن الا الشرارة التي اطلقت الحرب، وعند بدايتها اقفل الباب عليه وتركت الامور تذهب الى حدود اللا-عقل.
هكذا اذاً انفلتت الامور بعدما وقّع الوزير جبران باسيل براءة اختراع في وصف رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ”البلطجي”، فأراد مناصرو “أمل” ان يروه البلطَجة على حقيقتها، كما يصف احد المصادر القريبة من الحركة المشهد، رفعاً شعار “إذا ما كبرت ما بتصغر”.
ولهذه المقولة مدلولات كثيرة ينبعث منها عدة تفسيرات، أولها أن التوجّه لدى “أمل” هو في اتخاذ خيار المواجهة المفتوحة غير منزوعة الاسلحة المحرمة، والتي كان أحد وجوهها التراشق الحاد بين مناصري أمل والتيار على مواقع التواصل، وثانيها رفع درجات الهجوم والتنازع وصولاً الى نقطة “أكثر الممكن” ما قد يعيد ضبط الامور والعودة تدريجياً الى حدود العقل، وهو ما يظنّه الجدّيون من وراء تحريك الشارع.
الخوف الذي ساد طيلة نهار يوم أمس من مغبة خروج الامور عن السيطرة أضحى واقعياً في فترة ما بعد الظهر وعودة الناس من أعمالها، إذ لم يكن من خطوة لتنفيس المناصرين الذين حقنوا بابر ما بث على مواقع التواصل إلا بالتوجه صوب الشارع الذي لم يعد يتسع صدره للضغط فإنفجر على شكل تحركات وصلت رسائلها الى المعنيين.
“البروفا” كان كفيلة بتحريك المياه الراكدة عند “شيوخ الصلح” الذين استشعروا مخاطر الانزلاق إلى لعبة الشارع المعرض لدخول طرف ثالث على الخط في أي لحظة، أو إنجرار أحد المتنازعين إلى تصرف غير عاقل، على شاكلة ما حصل في محيط ميرنا الشالوحي، والذي لم يكن يحسبه أكثر المتشائمين.
حتى اللحظة لم تنجح الوساطات التي دخلت بشكل طارئ في لملمة الامور، إذ سجلت تصريحات سياسية عالية النبرة قادها نواب كتلة التنمية والتحرير، وصلت حد وصف النائب علي خريس لباسيل بـ”الولد القزم يلي بدو تربايه”، في حين بقيت الامور على مواقع التواصل على ما هي عليه.
من هنا كان مبعث خوف المتدخّلين الذين في بالهم الاكتفاء بما صدر عن “جيوش” الجانبين الالكترونية واغلاق الطرق أمام الوصول الى الشارع من خلال اعادة احياء الهدنة، بعد ان لمسوا أن تمدد الخلاف ووصوله الى الشرائح الشعبية رفع من امكانية الانزلاق الى “حفرة خطرة”، وعندها يصبح من الصعب لجم الامور، بدليل تصريح قديم للرئيس بري يقول فيه: “أنا بنزّل الشباب على الشارع، بس مين بيرجع بيطلّعهم؟”
سبب العودة الى هذا الكلام هو في الاشارة الى مقدار الخطر الناتج عن الاستمرار في سياسة جر المناصرين الى الحلبات الساخنة بالتوازي مع جرّ الامور السياسية الى خنادق اكثر تعقيداً.
وإذا تتحاشى مصادر عين التينة التطرق الى الخطوات السياسية التي تكفل الرّد على الوزير باسيل، تلفت أخرى متابعة الى أن الحكومة ستكون في مرمى القنص من قبل وزراء “أمل” العازمين على نقل المواجهة الى كل الجبهات، بعد ان نفضوا اليد من كل التفاهمات السابقة، مستشهدةً بتعليقات الوزير خليل على “غارة باسيل” بالقول:” “سقطت الخطوط الحمر.. استعدوا للمواجهة”.
المواجهة تتمظهر بعدة اشكال داخل الحكومة وخارجها. ففي ما خص الاولى، هناك ملفات تتميز بشحنات مشاكل مرتفعة تصلح لأن تعتمد كاسلحة في معارك، ولعل ملف الموازنة المقرر البت بها قريباً سيكون الضحيّة الاولى، وهناك أمور لا تقل شحناً في الخارج، بدليل الاعتصامات التي قد تنقل البلاد نحو الشلل في حال اختير اعتمادها على نحوٍ منظم.
عبدالله قمح