لم تعد آفة الفساد والهدر في مؤسسات الدولة اللبنانية ومرافقها أمراً طارئاً أو غير مألوف، إذ تتوالى الفضائح في مؤسسة تلو الأخرى، وتنتهي من دون محاسبة حقيقية أو إصلاح جذري يأخذ في الاعتبار استمرارية هذه المؤسسات بشفافية، تعزز ثقة المواطن بدولته وتمنع هدر حقوقه المستحقة.
آخر هذه الفضائح ما يجري حالياً في «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي» من هدر للأموال العامة واختلاسات ونفقات ضخمة غير مبرّرة وغياب الرقابة والتدقيق والتحديث، في حين يُفترض أن تكون هذه المؤسسة الضامن الأبرز لحقوق المواطنين وكرامتهم وحماية الأمن الاجتماعي. ونتيجة خطورة الأزمة التي باتت تهدد استمرار عمل الصندوق، دق معنيون ناقوس الخطر بعدما استنفدوا كل الوسائل الداخلية المتاحة وطالبوا مراراً بخطة إصلاحية بنيوية جذرية، ولكن كل تحذيراتهم لم تلق آذاناً صاغية.
وفي هذا السياق، أكد عضو مجلس الإدارة في الصندوق عادل علّيق في مقابلة مع «الحياة» أن «الهدر في الصندوق تجاوز 200 بليون ليرة سنوياً (133 مليون دولار)، أي نحو 20 في المئة من إجمالي المصاريف البالغة 2 تريليون ليرة، بينما العجز يرتفع سنوياً وسجل 300 بليون ليرة العام الماضي». وأضاف: «بهدف دفع مستحقات المستفيدين، لجأنا إلى صندوق نهاية الخدمة»، وفي ذلك مخالفة واضحة للقانون الداخلي للصندوق. ويكمن الخطر في غياب أي خطة واضحة لإعادة هذه الأموال إلى صندوق نهاية الخدمة، ما قد يؤدي إلى كارثة اجتماعية خطيرة.
وفنّد علّيق أبرز مكامن الهدر، بخاصة أن «الصندوق لا يزال يشتري أدوية السرطان والأمراض المستعصية كما يشتريها أي مواطن في شكل فردي بدلاً من شرائها بالجملة، على رغم القرار الصادر في هذا الشأن عن مجلس الإدارة عام 2008 والذي تم تأكيد تنفيذه مجدداً عام 2017، والذي يمكن في حال اعتماده توفير نحو 20 بليون ليرة سنوياً».
أما باب الهدر الثاني فيتمثل في استمرار الصندوق بشراء الأدوية الباهظة الثمن (المعروفة باسم براند)، ولا يلجأ إلى الدواء الجنيس أو المكافئ (المعروف باسم جنريك) الأرخص ثمناً والذي يتمتع بالفعالية والنوعية والخصائص ذاتها. وأكد عليق أن «الصندوق يصرف سنوياً 409 بلايين ليرة على الأدوية والاستشفاء، معظمها لشراء الأدوية الباهظة الثمن، على رغم أن كل الدول تقريباً تغطي كلفة دواء الجنريك الذي يؤمن العلاج ذاته، وتترك للمستفيد حرية شراء الدواء الأغلى على نفقته». وأضاف: «من خلال هذا القرار البسيط يمكن توفير نحو 100 بليون ليرة سنوياً، على اعتبار أن دواء الجنريك أرخص بنحو 25 في المئة على الأقل من دواء البراند».
ومن أبواب الهدر الكبيرة أيضاً معدل دخول المستفيدين من الضمان إلى المستشفيات البالغ نحو 24 في المئة سنوياً، بينما المعدل العام في العام نحو 10 في المئة أو أقل، ولا تتجاوز النسبة في «تعاونية موظفي الدولة»، وهي مؤسسة تشبه إلى حد كبير «صندوق الضمان»، 13 في المئة. وأكد علّيق أن «سبب هذه النسبة المرتفعة يعود إلى الموافقات السريعة والسهلة من قبل الصندوق وغياب الرقابة والتدقيق، وهنا يمكن توفير نحو 60 بليون ليرة سنوياً، إذ يدفع الصندوق للمستشفيات ما بين 500 و600 بليون ليرة سنوياً، ولذلك يجب تحديث برامج التدقيق والرقابة الطبية التي أصبحت متقادمة جداً».
وأضاف: «الهدر أيضاً موجود في تحديد معدل كلفة المستفيد من الضمان بـ800 ألف ليرة، بحسب دراسة أجريت عام 2000، بينما بلغت في دراسة حديثة نحو 1.2 مليون ليرة، وكأن الهدف التعتيم على الأرقام الحقيقية بهدف إخفاء العجز الكبير في موازنة الصندوق».
ومن المشكلات التي تواجه الصندوق أيضاً غياب تسعيرة موحدة للعمليات في المستشفيات، وهذا النظام لم يعد معتمداً عالمياً، فصناديق الضمان في الدول تعتمد تسعيرة موحدة تكاد لا تختلف بين مستشفى وآخر. ويُذكر أن وزارة الصحة اللبنانية طبّقت هذا المشروع منذ أكثر من 15 سنة.
وشدد على أن «غياب الخدمات الإلكترونية والأتمتة عن التفتيش والتصفية والموافقات في الصندوق يؤثر سلباً في الضبط المالي وترشيد الإنفاق، إذ لا نزال نعتمد على أشخاص للتدقيق والتصفية، في حين طبقت وزارة الصحة هذا المشروع وأدى إلى وفر نسبته 7 في المئة، أي نحو 60 بليون ليرة تقريباً».
وحمّل عليق الدولة والمؤسسات الخاصة أيضاً جزءاً من المسؤولية، بعدما امتنعت الدولة عن دفع مستحقاتها منذ نحو عامين، والتي بلغت تريليوني ليرة، في حين تلجأ مؤسسات خاصة إلى إخفاء عدد كبير من موظفيها عن الصندوق، وتعمد مؤسسات أخرى إلى تسجيل موظفين وهميين بهدف الاستفادة، أو تصرح عن موظفين بأجور متدنية جداً بهدف خفض المبالغ المستحقة. وتستغل هذه المؤسسات ضعف قدرات التفتيش في الصندوق، ما يتطلب تفعيل هذه الخدمات وتحديث نظام الرقابة وربطه بوزارة المال.
ويعاني الصندوق أيضاً نتيجة استقالة أو وفاة نحو 40 في المئة من أعضاء مجلس الإدارة، الذي انتخب عام 2006 وانتهت ولايته عام 2012 ولكن لا يزال مستمراً، ما يمنع أي فرصة للمحاسبة أو وضع خطة إستراتيجية تحدد الأهداف لانتشال الصندوق من أزمته.
وختم عليق: «طلبنا جلسات مراجعة بعدما بلغ عدد القرارات غير المنفذة من مجلس الإدارة نحو 15 قراراً، إضافة إلى توصيات لجان لا تؤخذ في الاعتبار، ولذلك اتخذنا قرار اطلاع الرأي العام على حقيقة ما يجري بعد استنفاد كل الوسائل الداخلية، فصندوق الضمان مؤسسة عامة ملك المضمونين، وأخشى أن استمرار هذا الوضع وغياب الإصلاحات الجذرية والبنيوية سيؤدي إلى إفلاس الضمان خلال 10 سنوات».
بدوره، رفع تحالف «متحدون»، الذي يضم أفراداً ومجموعات من الحراك المدني هدفهم مكافحة الفساد، الصوت عالياً عبر تقديم عدد من الدعاوى القضائية ضد «الصندوق» وبعض المسؤولين فيه بتهم عدة، منها تزوير براءات ذمة للشركات.
وقال المسؤول الإعلامي في التحالف بلال مهدي لـ «الحياة»: «في بعض الحالات، وجدنا أن على شركة معيّنة دفع مليار ليرة مقابل براءة الذمة، لنفاجئ لاحقاً بالتوصل إلى تسوية دفعت بموجبها 200 أو 300 مليون ليرة فقط».
وأضاف: «الشركات التي تطلب براءات ذمة تُحوّل إلى التفتيش، وبعضها شكا من تأخر فترة الانتظار لنحو شهرين أو ثلاثة أشهر لتحصيل براءة الذمة، بينما شركات أخرى حصلت عليها خلال أسبوعين فقط، وهذا يطرح علامة استفهام كبيرة، كما لدينا أكثر من 3 آلاف وثيقة تثبت مكامن هدر كبيرة، منها شراء هدايا وتجديد أثاث بمبالغ باهظة، وغيرها من النفقات المشبوهة».
أيمن هلال