قيل الكثير، وسيقال المزيد عن “الفضيحة” من العيار الثقيل المتمثلة بانكشاف فصول عملية تزوير ملف أمني للمخرج والممثل المسرحي زياد عيتاني. وإذا كانت الذاكرة اللبنانية قد اعتادت أن يطوي النسيان السريع أعتى التجاوزات من أهل السلطة وأدواتهم، فمن الصعب جداً أن تمر هذه المسألة نظراً لتداخل عوامل عدة في تركيب الملف وترويجه أولاً، و”نوعية” المشاركين المفترضين فيه ثانياً.
ذلك أن التباسات وثغراً عدة شابت القضية – الفضيحة منذ لحظة الإعلان عن توقيف عيتاني في 24 تشرين الثاني 2017، ثم تسريب تهمة عمالته لاسرائيل، وكمية التضخيمات والمبالغات التي رافقت ذلك الانجاز – المهزلة، وصولاً إلى تهاوي كل التحقيق الذي أجراه جهاز أمن الدولة وما ترتب عليه من انكشاف أمر الفبركة.
من أولى الإشكاليات التي لم تنطل على كثير من المتابعين للشأن العام أن بيان أمن الدولة بعيد توقيف عيتاني تضمن ثغراً وغوامض، خلافاً للبيانات الأمنية المتعارف عليها، بل كان أقرب إلى كونه موقفاً تحليلياً، ثم “صمت” حزب الله عن هذا “الانجاز” وهو الحزب الخبير في العقل الاسرائيلي وأساليبه واختراقاته، الأمر الذي زاد من الشكوك منذ اللحظة الأولى، فقط أولئك الذين سعوا للظهور بوصفهم “مستهدفين” من العدو الاسرائيلي انساقوا لترويج ما حصل بوصفه انجازاً يتجاوز توقيف مشتبه به.
الجميع يذكر تقارير إعلامية دبّجت للحديث عن شخصيات مغمورة قيل إن عيتاني حاول التقرب منها بأمر من “كوليت”، تمهيداً لاستهداف شخصيات سياسية..!! من يذكر التقارير التي تحدثت عن طول كوليت، وشعرها الأسود، وخبرية الألفي دولار ثمن العمالة؟
وإن صحت الأخبار أن المقدم سوزان الحاج هي من طلب الايقاع بعيتاني لأنها أرادت “الثأر” منه لأسباب تافهة(!)، وأنها طلبت من القرصان المتورط بالجريمة القيام بتزوير مشابه بحق آخرين تعتبرهم أعداء لها، وتريد تشويه صورتهم وأن ينتهي أمرهم في السجن!! إن صحّ كل ذلك نكون أمام كارثة مكتملة الأوصاف، أين منها أفلام الخيال المريض وأساطير الجاسوسية.
هنا في حال صحت الرواية؛ “القرصان” أصغر العابثين وأقل المتورطين، أما أكبرهم فلا يحتاج كبير بحث وتحر. بمعنى أن اعتقال هذا الفنان عيتاني (ولو كان المعني شخص آخر)، وتوقيفه وتعذيبه والتشهير به، واتهامه بتهمة خطيرة جداً .. مجرد ممارسات مليشياوية بائدة لا تمت إلى الدولة أو العمل الأمني بأي صلة. ماذا لو لم يكن زياد عيتاني شخصية معروفة، ومن منطقة كريمة في العاصمة، ماذا لو كان من قرية في أطراف البلاد، ألم يكن ليقضي سنوات طوال في زنازين الظلم؟
هنا تطرح أسئلة أقل من بديهية، مع تحسين الظن بأن هناك بقية “دولة” و”مؤسسات” في لبنان: هل سيجري توريط أبرياء لاحقاً من قبل هواة أو مغرضين بناء على دليل قابل للتزوير والتحريف والاختراق؟ هل سيدفع أبرياء آخرين ثمناً من حريتهم وأمنهم وكرامتهم نتيجة صراع الأجهزة الأمنية، أو بسبب نزوع فرد في موقع مسؤولية إلى النرجسية وكره الآخرين وحب السيطرة وسوء استخدام السلطة المؤتمن عليها (وثمة نماذج سابقة في التجربة اللبنانية)؟ ومتى ستنتهي الظاهرة المعيبة بحق الأجهزة والقضاء بتعمد التسريب المدوزن لبعض محاضر التحقيق المجتزأة بغرض التشويه أو قلب الحقائق أو للضغط لتسلك الأمور مسالك معينة، وبالتالي متى يُحترم ما يفترض أنه “سرية التحقيق”؟
من ظلم زياد عيتاني، ومن يتحمل مسؤولية تدمير حايته الشخصية والمهنية والعائلية ؟
السلطة: التي تدفع الشعب للكفر بالدولة والمؤسسات، من خلال الإيغال المتمادي بتغطية الفساد والفاسدين وتفريغ المؤسسات، وقد بات بعد الذي حصل من واجبها، أو من أدنى واجباتها (لأن في لبنان لا تستقيل أي سلطة بفعل الفضائح)، تحمل مسؤولياتها بمحاسبة المتورطين بالعبث بملف أمني خطير يمس الأمن الوطني واللعب حياة إنسان وكرامته، وتشويه صورة الأجهزة الأمنية والقضائية.
المجتمع: وهو المصدوم بتطورات القضية، ويكون مشاركاً في الظلم إن لم يتمسك بمطلب محاسبة السلطة على فسادها، وعليه ألا ينساق بفعل دعاية إعلامية مضادة نحو ردود الفعل العاطفية.
الإعلام: الذي اكتفى بنشر ما أُريد تسريبه من فبركات، حيث ضجت وسائل إعلام ومواقع بدسائس وسيناريوات.. (ولهذه النقطة حديث آخر).
أقل القليل، محاسبة من فبرك وغطّى وسرّب الملف. هذا هو الواجب الوطني، وبهذا المدخل يمكن القول إن اعتذاراً مقبولاً قد وجّه إلى عيتاني.
لا علاقة للبنانيين بالاعتذار، كما قال وليد جنبلاط، الاعتذار واجب على سلطة وأجهزتها الأمنية والقضائية، تستسهل الدوس على كرامات الناس، ولا تستحي من الفضائح، والأخطر الأخطر أن ما جرى فتح باباً ستستفيد منه اسرائيل بما يعنيه ذلك من مخاطر على الأمن الوطني.
يبقى السؤال : كم زياد عيتاني في السجون اللبنانية، وكم سوزان حاج في الأجهزة الأمنية؟
احمد الزعبي
لبنان 24