أمّا وقد أصبح في حُكم المؤكَّد أنّ تداعيات قضيّة تسميم العقيد السابق في الاستخبارات الروسيّة سيرغي سكريبال وابنته يوليا بغاز الأعصاب في مدينة سالزبوري البريطانيّة يوم الرابع من شهر آذار الجاري آخذةٌ بالتفاعُل على إيقاعٍ خطيرٍ من شأنه أن يؤدّي إلى تلغيم كافّة الفرص المتبقِّية لاحتواء التدهور المتواصِل في مسار العلاقات الروسيّة – الغربيّة، وخصوصًا بعدما بلغت حملة طرد الديبلوماسيّين الروس من الدول الدائرة في الفلك الأميركيّ – الأوروبيّ – الأطلسيّ حدًّا غيرَ مسبوقٍ في تاريخ النزاعات الدوليّة التقليديّة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه في خضمّ هذه التداعيات هو: ماذا لو أظهرت لنا الأيّام يا ترى أنّ الرواية التي جاءت على لسان سيّدة “عشرة – داونينغ ستريت” تيريزا ماي هي محضُ افتراءٍ وتقوم على عناصرَ تضليليّةٍ ملفَّقة؟
لا شكّ في أنّ لهذا السؤال الكثير من المبرِّرات التي تجعل الحاجة إلى الحصول على إجاباتٍ شافيةٍ عنه ملحَّةً للغاية في هذه الأيّام، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ السلطات البريطانيّة لم تقدِّم حتّى الآن أيَّ دليلٍ حسّيٍّ واحدٍ من شأنه أن يُثبت صحّة المزاعم الرائجة بخصوص تورُّط روسيا المحتمَل – على الأرجح – في قضيّة التسميم، علاوةً على أنّ لندن ما زالت ترفض التجاوب مع طلب موسكو بشأن إشراكها في التحقيقات الجارية وفقًا لما تقتضيه الأعراف المعمول بها في إطار منظّمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائيّة، الأمر الذي يبدو كافيًا في هذه الأثناء لتعزيز فرضيّة التضليل والتلفيق، وهي الفرضيّة التي لم تتردَّد وزارة الخارجيّة الروسيّة في تسليط الضوء عليها ووضعها تحت المجهر نهار أمس الأربعاء بشكلٍ مباشِرٍ وصريح.
السوابق البريطانيّة
وإذا كان الردّ الروسيّ على الاتّهامات الموجَّهة لموسكو بالضلوع في قضيّة تسميم سكريبال وابنته قد وصل البارحة إلى حدِّ توجيه اتّهامٍ مضادٍّ للشرطة البريطانيّة، على وجه الخصوص، بالوقوف وراء الحملات التضليليّة الممنهَجة التي تستهدف تأجيج الرأي العامّ العالميّ ضدّ روسيا، فمردّ ذلك هو أنّ ثمّة شواهدَ تاريخيّةً لطالما أثبتت عدم نزاهة الأجهزة الأمنيّة على طول خارطة المملكة المتّحدة وعرضها في العديد من الملفّات والمناسبات، على شاكلة قيام المحقِّقين اللندنيّين مثلًا بإغلاق ملفّ “حادثة انتحار” ساندريلا الشاشة العربيّة سعاد حسني بتاريخ الحادي والعشرين من شهر حزيران عام 2001 على أساس أنّها “قضيّةٌ غيرُ مثيرةٍ للشبهات”، وذلك بعد مرور خمسِ ساعاتٍ فقط على وقوع الحادثة، علمًا أنّ التفاصيل التي سآتي على ذكرها أدناه، باعتباري كنتُ شاهدَ عيانٍ عليها، كانت تكفي منذ الوهلة الأولى لإثارة ألفِ شبهةٍ وشبهةٍ حول حقيقة وملابسات ما حصل فجْر ذلك اليوم اللندنيّ الكئيب.
جريمة قتل
ولعلّ الإشارة الأولى التي بدت كافيةً يومذاك للدلالة على أنّ ما حدث هو جريمةُ قتلٍ وليس حادثةَ انتحارٍ، تتمثَّل في أنّني تلقّيتُ اتّصالًا هاتفيًّا عند الساعة السابعة صباحًا من غرفة الأخبار في “قناة أبو ظبي الفضائيّة” التي كانت قد أوفدتني قبل ذلك التاريخ بقرابة الثلاثة أسابيعَ من موسكو إلى لندن من أجل تغطية دورة الانتخابات البريطانيّة، حيث تمّ إبلاغي عن خبرٍ واردٍ وغيرِ مؤكَّدٍ في وكالات الأنباء العالميّة بخصوص الحادثة – الجريمة، فإذا بي أسارع إلى العمل على استيضاح الأمر عن طريق إجراء اتّصالٍ هاتفيٍّ مع صديقٍ وزميلٍ مصريٍّ قديمٍ يعمل مصوِّرًا في جريدة “الشرق الأوسط” ويدعى محمد متولي، لأكتشف أنّه تفاجأ على الفور بالخبر، علمًا أنّه غالبًا ما يكون على تواصُلٍ دائمٍ مع الوسط الفنّيّ العربيّ في لندن، قبل أن يطلب منّي الانتظار على الخطّ ليُجري بدوره اتّصالًا مع الطبيب المشرف على علاج سعاد حسني، لنجد أنّ الطبيب تفاجأ بالخبر أيضًا، وخصوصًا عندما عبَّر عن دهشته الشديدة قائلًا إنّ الراحلة كانت قد زارته في العيادة بعد ظهر اليوم السابق وخرجت سعيدةً بعدما عرفت أنّها تمكَّنت من التخلُّص من بعض الوزن الزائد الذي كان يُسبِّب لها الاكتئاب.
حكاية المذكِّرات
عندئذٍ، سارعتُ إلى إجراء اتّصالٍ آخَر مع الصديق الصحافيّ المصريّ عادل لطفي الذي تفاجأ بالخبر أيضًا، ولكنّه اعتبره محتمَلًا جدًّا على أساس أنّ الـ “ساندريلا” كانت قد زارته في الأسبوع السابق طالبةً منه المساعدة في صياغة مذكِّراتها بغية نشرها في كتابٍ ينهد إلى كشف المستور حول “الأساليب القذرة” التي يستخدمها جهاز المخابرات المصريّة لتجنيد الفنّانين والفنّانات في شبكاتٍ تجسّسيّةٍ تتغطّى بشبكاتِ دعارةٍ وربّما أكثر، وهو الكتاب الذي أرادت الراحلة من وراء نشره التعبير عن احتجاجها على قيام سلطات بلادها بالتوقُّف عن تسديد نفقات علاجها، الأمر الذي حمَّلها أعباءَ ماليّةً ثقيلة.
من هنا، وبالنظر إلى أنّ عادل لطفي كان يقيم على مسافةٍ ليست بعيدةً عن بناية “ستيورات تاور” التي سُجِّل فيها وقوع الحادثة – الجريمة، فقد اتّفقنا على أن نلتقي هناك لكي يحدِّثني أكثر عن حكاية المذكِّرات، حيث رأينا لدى وصولنا إلى المكان في تمام الساعة الثامنة صباحًا بأمّ العين التخطيط المرسوم على الأرض حول المساحة التي سقطت فيها الجثّة بعد تنظيفها من آثار الدماء، وألقينا نظرةً من الأسفل صوب الشرفة في الطابق السادس التي كانت مدعَّمةً بجدارٍ شبكيٍّ يبلغ ارتفاعه أكثر من مترين، لنكتشف عدم وجودِ أيِّ مكوِّنٍ عالٍ، مثل كرسيٍّ أو طاولةٍ أو سلَّمٍ، من شأنه أن يعزِّز الاعتقاد بأنّ الراحلة استعانت به للقفز من فوق الجدار الشبكيّ لو أنّها قرَّرت الانتحار بالفعل.
صمت السفارة
وإذا كانت عناصر الغرابة لم تتوقَّف عند هذا الحدِّ وحسب، بل تجلَّت أيضًا في إصرار السفارة المصريّة على رفض الإدلاء بأيِّ تصريحٍ طيلة ساعات الصباح حول القضيّة، واكتفائها بالإعلان عن عدم تمكُّنها من تأكيد الخبر أو نفيه، على رغم تأكيدي لمحدِّثي على الهاتف بأنّني أقف للتوّ بالقرب من مكان سقوط الجثّة، فإنّ الأغرب من كلّ ما تقدَّم ذكره سرعان ما تجلّى لدى لقائي في المكان نفسه مع ناشرٍ مصريٍّ يدعى منير موافي، ولا سيّما بعدما حدَّثني عن شهودِ عيانٍ رأوا كيفيّة قيام ثلاثةِ رجالٍ من المخابرات المصريّة بإلقاء القائد السابق للحرس الجمهوريّ في عهد الرئيس أنور السادات، الليثي ناصر، من إحدى شرفات تلك البناية يوم الرابع والعشرين من شهر آب عام 1973، وكيف سُجِّلت الجريمة في ملفّات الشرطة وقتذاك على أنّها “حادثة انتحار”، الأمر الذي دفعني إلى التوجُّه صوب مركز الشرطة في المنطقة لاستيضاح ما إذا كان المحقِّقون يعتقدون بأنّ سعاد حسني تعرَّضت لجريمةِ قتلٍ أم لا، فإذا بأحد الضبّاط يقول لي ما حرفيّته: “لقد أغلقنا ملفّ الحادثة على أساس أنّها قضيّةٌ غيرُ مثيرةٍ للشبهات”، وذلك قبل أن أتلقّى اتّصالًا هاتفيًّا من غرفة الأخبار في “أبو ظبي” بدقائقَ قليلةٍ فقط، وهو الاتّصال الذي طلَب فيه محدِّثي المصريّ الجنسيّة التوقُّف عن إعداد تقريري الاستقصائيّ “لأنّ القناة ستكتفي بعرضِ تقريرٍ يُحاكي المسيرة الفنّيّة للسندريلا الراحلة”، على حدِّ تعبيره.. وحسبيّ أنّ تقاطع المصالح بين الأجهزة الاستخباراتيّة كان قد بدأ لتوّه في تلك اللحظة.. وللحديث عن وقاحة هذا التقاطع في قضيّة تسميم سيرغي سكريبال وابنته يوليا تتمّة.
يتبع