لم يكن لبنانيون كثيرون بحاجةٍ إلى انتظار نتائج الانتخابات البرلمانية، لكي يدركوا أن حزب الله سيقبض على الحياة السياسية، بعدما قبض على الدولة اللبنانية منذ اجتياحه بيروت، في السابع من مايو/أيار 2008، ولم يكونوا كذلك بحاجةٍ إلى انتظار النتائج ليدركوا أن أحوالهم السياسية والمعيشية لن تتغير.
وأن الوجوه والقوى السياسية عموماً لن تتغير أيضاً، لذلك قاطع أكثر من نصف اللبنانيين مهزلة انتخابات المحاصصة الطائفية التي أكدت، من جديد، قتامة المشهد اللبناني، وأن الأوهام نحو الخروج من المأزق الراهن، وبالتغيير نحو المواطنة ودولة المواطنين، تبدّدت في ظل الانقسام الأفقي الحاصل، وحيازة حزب الله وحده من بين الأحزاب الأخرى، السلاح الذي جعله أقوى من الدولة، ومهيمنا عليها، حتى بات وحده صاحب قرار الحرب والسلم في البلد، يصدره متى وأينما يحلو له، أو عندما يطلب منه الولي الفقيه القابع في طهران.
وبصرف النظر عن انتزاع حزب الله تمثيلاً نيابياً أكبر مما كان لديه قبل تسع سنوات، وبات حضوره قوياً تحت قبة برلمان المحاصصة الطائفية اللبنانية، إلا أن حسابه الطائفي بات راجحاً لدى ممثلين عن طوائف أخرى، مسيحية وسنيّة، إلى درجةٍ بات يمكن معها القول إن سنة حزب الله ومسيحييه أصبح لهم أيضاً تمثيل برلماني ملحوظ، بنحو عشرة نواب، الأمر الذي له مدلولاته ومفاعيله في حسابات نظام المحاصصة الطائفية اللبنانية وتركيبته، والتي جرى التعبير عنها بمظاهر بلطجةٍ مسلحةٍ في أكثر من مكان في لبنان.
وأكثرها تعبيراً وإسفافاً وطائفية ما جرى عبر رفع علم الحزب على تمثال رئيس وزراء لبنان الراحل، رفيق الحريري، بعد بدء ظهور النتائج الأولية للانتخابات، في مشهدٍ يذكّر بما فعله مقاتلو حزب الله، حين رفعوا رايتهم الطائفية على مأذنة مسجد عمر بن الخطاب في مدينة القصير السورية، وأعلنوا المدينة مستباحة، ثم استوطنوها بعدما قتلوا وهجّروا قسرياً أهلها وساكنيها الأصليين، الذين كانوا قد آووا أبناء وزوجات مقاتلين من حزب الله وسواهم، هربوا من القصف الإسرائيلي إبّان حرب تموز/يوليو 2006.
ما الذي تغيّر؟ ذلك أن نتائج انتخابات السادس من مايو/ أيار 2018 لن تؤثر كثيراً في الحياة السياسية في لبنان، كونها لن تسهم في تغيير عملية صنع القرار في لبنان، على الرغم من أهمية النتائج على المستوى الشكلاني، إذ لم تتغير الطبقة السياسية حتى وإن تبدلت بعض الوجوه والشخصيات، ويعرف الجميع مدى سطوة حزب الله على الدولة اللبنانية، وتأثيره على القرار اللبناني، كما أن الأحزاب السياسية والزعامات الطائفية والعشائرية أيضاً لم تتغير، لذلك لا غرابة في أن أكثر من نصف الجمهور قاطع الانتخابات، وتحول إلى لا مبالٍ، أو على الأرجح متفرّج على مهاترات أقطاب الطائفية السياسية، وتصفيات الحسابات بينهم.
وكشف واقع الحال اللبناني أن تجربة الانتخابات البرلمانية في 2005 قدّمت درساً وعبراً كثيرة لغالبية اللبنانيين، حين أفرزت أرجحية لقوى “14 آذار”، لكن حزب الله رمى بها عرض الحائط، وتجاوز الدولة اللبنانية برمتها، عندما دخل في حرب مع إسرائيل، في يوليو/تموز 2006، على الرغم من إرادة الدولة اللبنانية وإرادة غالبية اللبنانيين، وتحوّل بعدها إلى حارس حدود لإسرائيل وفق قرار مجلس الأمن 1701.
وبقي هذا الحزب الذي بات يقوم بأدوار إقليمية وفق ما تمليه أجندة نظام الملالي الإيراني، إلى جانب تحكّمه في الدولة اللبنانية، وفعل الأمر نفسه، وداس على نتائج انتخابات 2009 البرلمانية، وعمل على تعطيل مختلف مناحي الحياة في لبنان، حتى حصل على الثلث المعطل في الحكومة، وسجل سابقة بذلك.
وعندما فاز تيار المستقبل، وحلفاؤه المسيحيون والدروز، بأغلبية مقاعد البرلمان، لم يستطيعوا تشكيل حكومة وحدهم، بل اضطر رئيس الوزراء سعد الحريري إلى الرضوخ أمام الثلث المعطل لحزب الله وحلفائه، ثم فرض هذا الحزب حليفه المسيحي، ميشيل عون، على كرسي الرئاسة، وتبع ذلك حدوث التنازل الأكبر بالموافقة على مطلب الرئيس عون توزير صهره جبران باسيل، على الرغم من خسارة الأخير في الانتخابات.
وقد قام حزب الله بذلك كله مستنداً إلى قوة السلاح التي يملكها، وادّعى زورا وبهتاناً أنه سلاح المقاومة والممانعة سنوات طويلة، ثم تأكد لبنانيون كثيرون أنه موجّه ضدهم، حين وجه سلاحه إلى صدورهم خلال اجتياحه بيروت في 2008. وفضلاً عن ذلك كله، لجأ حزب الله إلى استعراضات القوة في جميع المناسبات والاستحقاقات السياسية، بل وكان ينشر أصحاب القمصان السود في مواجهة خصومه اللبنانيين.
ولم يكتف بذلك، بل حين جاء الأمر من نظام الملالي الإيراني، كي يوجه سلاحه إلى صدور المعارضين السوريين، دخل معركة ضد غالبية السوريين، دفاعاً عن نظام الأسد المجرم، ولا يزال يمعن في التغوّل في الدم السوري.
الملفت أن الطبقة السياسية المترهلة والمطمئنة على نظام المحاصصة الطائفية، لجأت إلى المهاترات، ونشر غسيلها الوسخ، ولم تكتف بذلك، بل زجّت أزمة النزوح السوري في بازارها الانتخابي الذي ربطته بفزّاعة توطين اللاجئين الفلسطينيين، واستغلت المشاعر والمخاوف التي أنتجتها، لكي تشد أوزار التعصب الطائفي الأعمى، ولم تكلف نفسها عناء البحث عن مسببات الأزمة، وكيفية إيجاد حلولها. كما أنها لم تبال بما أصاب لبنان وبناه السياسية والاجتماعية والاقتصادية من ترهلٍ وأزمات.
ووصل الأمر إلى أن هذه البنى باتت عائقاً كبيراً أمام آفاق التقدم والخلاص من الوضع الراهن، وفضلت تحويل البلد إلى ساحةٍ للصراعات الإقليمية والدولية. وبالتالي، لن تؤثر نتائج الانتخابات على وضع البلد وناسه، خصوصا أنها أجريت في ظل قانون انتخابي لقيط، زاوج بين النسبية والصوت التفضيلي، وقام على جمع متناثر لشتات أفكار غائية، تخدم مصالح تحالفات قوى المحاصصة الطائفية، ولا تكترث بالمواطن اللبناني. وكان المهم بالنسبة إلى الذين وضعوه وصول بعض الشخصيات إلى قبة البرلمان، بصرف النظر عن أجنداتهم وخبراتهم وقدراتهم واستعدادهم لخدمة الناس والبلد.
عمر كوش