لم يعد اللبناني، بشكل عام، قادراً على التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بل أصبح شبه خاضع لمنظومة عصية على السقوط، منظومة تتشاركها ثلاثية رجال الأعمال ورجال الدين وأمراء الحرب، قبل أن ينضم إليها أخيراً الانتهازيون، أصحاب المحاولات الاستغلالية، للدخول في المنظومة، والتحول إلى رقم أساسي فيها، بدلاً من تغييرها.
هؤلاء الانتهازيون مجموعة من البشر تسلّقت أحلاماً لبنانية في صيف عام 2015، حين بدأ الحراك من أجل رفع النفايات من الشارع، ثم تحوّلت إلى مشاريع نيابية بأموال مشبوهة.
منهم من عمل على ضرب الحركة الاعتراضية، عبر شقها من الداخل، أو امتصاصها شخصه فقط، ومنهم من سعى إلى استغلال ظهوره الإعلامي من أجل السطو على مقعد نيابي باسم الشعب.
في خضم ذلك كله، دُعينا، نحن اللبنانيين، للمشاركة في الانتخابات النيابية في 6 مايو/ أيار الحالي، على أساس أن الانتخابات ستتيح لنا التغيير المنشود، غير أنه من العبث التفكير هكذا، فلو كانت الانتخابات قادرةً على التغيير في لبنان، لَما سمحوا بإجرائها أصلاً؟ لا أحد يريد انتخاباتٍ تسمح بفتح ثغرةٍ في جدار نظام قائم على الزبائنية والفساد والرشى. النظام اللبناني لا يتغير من الداخل، وهذا معلوم، وكل ما يمكن القيام به هو الضغط الشعبي في اتجاه ملف محدّد “علّهم” يستجيبون، كثيرة هي الملفات التي لم تُعالج بطريقة مهنية.
تخيلوا مثلاً أن قضية كالكهرباء انتهت إلى وفاق سياسي بين الجميع، في صورةٍ مغايرةٍ للمعركة “الضارية” التي جمعت الأطراف اللبنانية ببعضها بعضاً قبل الانتخابات. ويقيناً القول إن القصد من التصرف السياسي بعشوائية في ملف الكهرباء متفق عليه، لجعل المواطن لا يفهم حقيقة هذا الملف، وبالتالي الخضوع لرؤية فريق من اثنين في مناقشات الكهرباء.
بالتالي، يبقى اللبنانيون أمام خيارين لا ثالث لهما، علماً أن كلا الخيارين (الفريقين) عملا بلا كلل على امتصاص رغبة اللبنانيين في الحصول على كهرباء، بإغداق الوعود الغريبة عليهم. وكما في الكهرباء كذلك في ملفاتٍ أخرى، كالصحة والتعليم والغذاء والمواصلات.
حسناً، كيف يمكن السماح بإجراء انتخاباتٍ متاحةٍ للأغنياء فقط؟ في وقت أن الفقراء قادرون على اجتراح المعجزات، لأنهم يدركون ما يحتاجون إليه؟ ذلك لأن ثلاثية رجال الأعمال ورجال الدين وأمراء الحرب هي من انتصرت في لبنان حتى إشعار آخر. يمكن رؤية ذلك في الولائم التي يُدعى إليها الثلاثي المذكور، وهو أمر “اعتيادي” في لبنان منذ فجر التاريخ.
و”الاعتيادية” تحتاج إلى كسر، والكسر لا يولد إلا بتغيير الذهنية، والذهنية مصابةٌ بجروح عميقة في الوقت الحالي. ما يجعل من عبثية الحياة في لبنان جرحاً نازفاً.
الأهم في لبنان هو غياب مبدأ المحاسبة، القانونية والسياسية، المتمثل في غياب معارضة اجتماعية حقيقية في البرلمان من جهة، وشلل كل المؤسسات الرقابية على المجلس النيابي والحكومة من جهة أخرى.
كما تغيب المحاسبة الشعبية، بفعل “تأثر” إعلاميين كثيرين، بمتلازمة استوكهولم، مع تحولهم إلى أنصار لزعماء وأمراء حرب، بدلاً من أداء دور ريادي في الكشف عن الفساد والمحسوبيات.
الإعلام صورة عن لبنان الذي فقد حسّ المراقبة وحسّ المسؤولية. يكفي مراقبة رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، الذي يستغل كل سانحةٍ لالتقاط صورة “سيلفي” مع الإعلاميين، وهم يضحكون، بدلاً من الامتناع أساساً، للمحافظة على مسافةٍ تتيح لهم إصدار الآراء الصحيحة. وبدلاً من مواجهته بسؤال اعتراضي عن أهمية “السيلفي” في وقت لم تعالج فيه ملفات البلد الأساسية.
صحيحٌ أن الإعلاميين ليسوا من المريخ، لكنهم، وبمجملهم، اختاروا الطريق الأسهل، وهو بناء الصداقة والتزلف لرجال الأعمال ورجال الدين وأمراء الحرب، على حساب نشر الوعي والمطالبة بالكشف عن المعلومات واطلاع الرأي العام على ما يُحاك من ملفاتٍ فاسدةٍ في البلاد.
بيار عقيقي