Raison d état تعني “مصلحة الدولة العليا”. فأيّ “مصلحةٍ عليا للدولة” وراء مرسوم التجنيس الأخير، ووراء ما قيل عن “تجميده”؟!
قرأتُ البيان الصادر عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية اللبنانية، في شأن الشائعات التي تناولت مرسوم التجنيس الأخير وبعض “المحظيين” بنعمته، وربطته بصفقات مالية وتجارية محتملة، وبمشاريع التقرب من النظام السوري والتودد إليه.
البيان بذاته، أوقعني في ذهولٍ سلبي عارم. لم تعجبني فيه على وجه التخصيص، جملة “على كل من يملك معلومات أكيدة بشأن أي شخص مشمول بالمرسوم المشار إليه أعلاه ولا يستحق الجنسية اللبنانية، التوجه بمعلوماته هذه إلى وزارة الداخلية – المديرية العامة للأمن العام للاستثبات”.
لم أكن أعلم أن رئاسة الجمهورية يمكن أن توقّع مرسوماً كهذا، من دون أن تتثبت من “مصلحة الدولة العليا”، ومن الأسباب الجوهرية الموجبة، التي أملت اتخاذ مثل هذه الخطوة المهيبة.
لم أكن أتخيّل أن الرئاسة قد تترك مرسوماً ذا دلالاتٍ رمزية، كهذا المرسوم، عرضةً للقيل والقال؛ من مثل أن تصبح الجنسية اللبنانية للبيع أو المقايضة، وخصوصاً أن بعض الذين شملتهم حظوة التجنيس هم – على ما قيل – من كبار رجال الأعمال الشديدي الالتصاق والصلة بالنظام الاستبدادي القائم في سوريا.
يحقّ لرئيس الجمهورية أن يستخدم صلاحياته في هذا الشأن، فيمنح الجنسية لمَن يرى في منحه إياها “مصلحة عليا للدولة”.
بدون تعميم، أذكّر بأن رؤساء سابقين للجمهورية، خطوا خطواتٍ تجنيسية كهذه (لكن، في أواخر عهودهم، تيمناً بالمثل القائل: يا رايح كتِّر القبايح)، ولا تزال لعنات مراسيمهم تهزّ أسس الكيان والتوازن الديموغرافي، وتلاحق بالعار مفهوم الكرامة الوطنية إلى القبر.
أياً يكن أمر هذا المرسوم، وما يُشاع أيضاً عن أسبابٍ محض “اقتصادية” وراء إصداره، للحؤول دون إفلاس الجمهورية، يعزّ عليَّ أن يصدر هذا المرسوم موصوماً بهذا القدر من الشائعات، مثلما يعزّ عليَّ أن يصدر مثل هذا البيان عن رئاسة الجمهورية، لأنه يُشعِرني باحتمال أن يكون توقيع رئيس الجمهورية لمرسومٍ بهذه الرمزية المادية والمعنوية، مدار تندّر وتساؤل، وعرضةً لسيل هائل من أنواع التشكيك في أسبابه وخلفياته ودلالاته وانعكاساته واحتمالاته المختلفة.
في غمرة الشعور بالهول والمرارة، كنتُ أتمنى لو أن مرسوماً بالتجنيس صدر مانحاً الجنسية لعبقريّ من العالم، أكان عربياً أم أجنبياً؛ لصديق، لشخصية معنوية إنسانوية، لشاعر أو لكاتب أو لموسيقي أو لفنان أو لمخترع، أو حتى لشخصٍ طريد، أو لمحض إنسانٍ “عاديّ”، لكنْ عاشق للبنان.
كم كان ليكون ذلك مدعاةً للكبر والاعتزاز والأنفة.
تصوّروا – فقط تصوّروا – لو أن رئيس الجمهورية أصدر مرسوماً جمهورياً بمنح الجنسية اللبنانية بعد الوفاة لشاعرٍ من طراز الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط (أو نزار قباني، أو محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السيّاب، أو محمود درويش الفلسطيني، أو ليوبولد سنغور السنغالي، أو المهاتما غاندي الهندي، أو باندارانايكه السري لانكية، أو ملالا يوسفزي الباكستانية…)، ليس لسببٍ إلاّ لأن هذا الشاعر أحبّ لبنان من أجل ذاته، أكثر من كثيرٍ من اللبنانيين، وقد أحبّه وكتب له القصائد باعتباره أرضاً للشعر والصداقة والحبّ والحلم والحرية؟!
على هامش هذا المرسوم – “الوديعة”، يعزّ عليَّ أن يكون لبنان وديعةً عند أحد؛ عند بلد أجنبي، عربي أو صديق أو عدوّ.
يعزّ عليَّ أن يكون وديعةً عند نظامٍ استبدادي، توتاليتاري، أمني، ديني، أو عسكري.
يعزّ عليَّ أن يكون وديعةً عند سفارة أو أكثر، فيصبح سوقاً للمقايضة والتناتش والتصارع بين عملاء السفارات والاستخبارات والجواسيس ورجال المال والأعمال والغسيل والتهريب ومواقع النفوذ.
يعزّ عليَّ أن يكون لبنان وديعةً ضدّ لبنان، ضدّ كرامته، ضدّ سيادته، ضدّ دستوره، ضدّ كينونته، ضدّ حريته، ضدّ أرضه، وضدّ شعبه.
يعزّ عليَّ أن يظلّ لبنان يصير على أيدي رؤسائه وقادته وزعمائه ونوابه ووزرائه وطوائفه ومذاهبه، محض سلعة، أو خردة، أو وكر للصفقات السياسية، الأمنية، الاستخباراتية، المالية، التجارية.
يعزّ عليَّ أن يكون لبنان الشاعر وديعةً ضدّ الشعر.
يعزّ عليَّ أن يكون لبنان الإنسان وديعةً ضدّ الإنسان.
يعزّ عليَّ أن يكون لبنان الجمال الأرضي وديعةً للتشوّه والبشاعة والتلوّث.
لبنان الذي أحببناه، وقدّسناه، ومجّدناه، واعتبرناه رسالةً، أيجوز أن نراه يظلّ يصير ما يصير، بدون أن نفعل شيئاً من أجله؟!
أيجوز أن يتركه مسؤولوه يظلّ يصير ممرّاً للعملاء، ومرتعاً للغزاة ولواضعي اليد، وأن يظلّ يصير ثنائياتٍ طائفية ومذهبية، شيعية مارونية سنّية درزية أرثوذكسية… إلى آخره، وملعباً للاختبار، وأرضاً للبيع، وهويةً للاستئجار والشراء، وخزينةً للنهب، ودستوراً للانتهاك، وأدياناً ومذاهب ومناطق للاحتراب؟!
أما ناسه الأحرار، أفيجوز أن يتركوه لقمةً سائغة في أشداق الذئاب وشذّاذ الآفاق؟!
أبحث عن “مصلحة الدولة العليا”raison d état la في هذا المرسوم، لكن يعييني البحث.
أتكون “مصلحة الدولة العليا” ماثلة في الشائعات الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعي، أم يجب أن يكشف هذه “المصلحة” مَن يجب أن يكشفها ويوضحها، فيضع بذلك، إمّا حدّاً للشائعات وإمّا يؤكد صحتها؟!
ترى، والحال هذه، ألم يكن أجدر بالبيان الصادر عن مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية أن يهدئ روع الناس الوطنيين، بتوضيحٍ مشرِّف، جازم، حاسم، مانع… بدل أن يرمي كرةً خفيفةً، بل مثيرةً للشفقة، في ملعب هؤلاء الناس، داعياً من يملك معلومات في شأن المجنّسين الجدد إلى أن يضعها في يد الأمن العام؟!
أجهزة الدولة الرسمية، هي التي يجب أن تملك المعلومات، وهي التي يجب أن يُركَن إليها “للاستثبات”، لا أن يُطلَب من المواطنين أن يحلّوا محلّها.
أليس مثل هذا البيان، وقبله هذا المرسوم التجنيسي، من علامات الآخرة اللبنانية؟!
نريد Raison d état وراء مرسوم التجنيس. فأيّ “مصلحة عليا للدولة” (غير معلومة من المواطنين العاديين) وراء مرسوم التجنيس هذا، أو وراء “تجميده”؟!
… وإذ أتذكر “عهد الوصاية” الأسدي ( أو الاحتلال! )، أليس جديراً برئاسة الجمهورية، أمام فداحة ما نحن فيه، أن ترى “مصلحة الدولة العليا” في “إلغاء” هذا المرسوم ؟!
عقل العويط