يهمّني أن أروي حادثتَين أكاديميتَين، تومئان إلى “زمنَين”، بل إلى ثقافتَين، بلغتا حدود القطيعة. معتذراً من كونهما “شخصيّتَين”.
انتسبتُ إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانيّة، خريف العام 1971، بعد اجتياز امتحانٍ للدخول، لا يخضع اختيار الطالب فيه للتوازن الطائفي، ولا لأيّ توازنٍ، سياسيّ، مناطقيّ، أو عشائريّ. امتحانٌ للدخول، كانت وحدها الكفاءة تقرّر “عبوره”.
لا رئيس الجمهورية، لا المفتي، لا البطريرك، لا الزعيم، لا النائب، لا الوزير، لا القبضاي، لا الأزعر، ولا غير هؤلاء، مهما علا شأن هذا الغير، كان في مقدوره أن يغيّر نتيجة امتحانٍ قضى بفوز هذا الطالب لا بفوز سواه.
لا أحد على الإطلاق كان في مقدوره أن يغيّر تلك “المشيئة” الأكاديميّة الديموقراطيّة، غير المسبوقة في تاريخ لبنان، حيث كان الطلاّب أنفسهم (مجلس الفرع) يشاركون في مراقبة سير الامتحانات من أوّلها إلى آخرها، وصولاً إلى فضّ المسابقات المختومة، وانتهاءً بإعلان النتائج، بالتزامن بينهم وبينهم إدارة الكلية.
ذلك كان في الزمن الذي سبق مباشرةً، اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975. هو زمنٌ، أُحبّ أن أُطلِق عليه زمن “لبنان الشاعر”، بل زمن “لبنان الثقافيّ”، المشيَّد على تراكماتٍ معنويّة، ماديّة، قانونيّة، دستوريّة، فكريّة، عقليّة، إنسانويّة، نقديّة، متواصلة، أفضت إلى توليد مثل تلك النتيجة. كان زمناً شعريّاً وثقافيّاً، بمعنى ارتباطه، لا بالشعر والثقافة فحسب، بل بالقيم والمعايير والمقاييس الخلاّقة التي أنتجت لبناناً مختلفاً عن لبنان الثلاثين (بل الأربعين) سنةً الأخيرة.
هذا في ما يتعلّق برواية الحادثة الأولى، في ذلك “الزمن الأوّل”، زمن الجامعة اللبنانيّة الأوّل.
أما الثانية، فـ”شخصيّة” أيضاً، لكنْ جامعيّة وأكاديميّة خصوصاً، وبالتأكيد، مع فارقٍ جوهريّ، مرتبطٍ للأسف بانتهاء ذلك “الزمن الأوّل”، ومباشرة الخوض في مستنقعات “الزمن الثاني”، زمن الانهيارات المعياريّة.
ففي العام 1984، حصلتُ على شهادة دكتوراه في الأدب العربيّ (اللبنانيّ) الحديث الراهن، في إشراف علاّمةٍ يسوعيّ في جامعة القديس يوسف.
فتقدّمتُ على الأثر، بستّة طلبات للتدريس في ثلاث كليّاتٍ في “جامعتي”، و”بيتي”، و”عريني” (كليّة التربية، كليّة الآداب، وكليّة (أو معهد) الإعلام). وكانت آنذاك قد تعرّضتْ للتقسيم والتفريع (شرقيّة وغربيّة!).
أذكر جيّداً أن طلبي لم يُستجَبْ في أيٍّ من هذه الكليّات. بل أكثر: لم “يتنازل” أيٌّ من المسؤولين الأكاديميين والإداريين فيها، لإعلامي بعدم قبول الطلب. كأنْ لم يكن طلبٌ للتدريس.
وإذا كنتُ قد فزت في امتحان الدخول إلى الجامعة، طالباً، بـ”كفاءتي”، فأنا لم أتّصل لتعييني مدرّساً فيها، بأيّ زعيم. وإنّما أُورِد هاتَين الحادثتَين للعبرة الجامعيّة، وللمقارنة بين “زمنَين”. فاتّعظوا!
عقل العويط