المرء، إذا لم يكن رجل سياسة ومال ودين، إذا لم يكن مشاركاً في عمليات اغتصاب ونهب وسرقة ومحاصصة، إذا لم يكن مهرّب مخدّرات وقاتلاً وسارقاً ومثير غرائز وعصبيات، إذا لم يكن حاكماً، رئيساً، وزيراً، نائباً، زعيم مذهبٍ أو طائفة، ماذا في مقدوره أن يفعل خلال 21 يوماً.
إذا “قرّر”، لسببٍ من الأسباب، أن يلازم منزله، وأن لا يخرج إلى أيّ مكانٍ آخر، وأن لا يتعاطى أيّ شأنٍ من الشؤون “العمومية” ؟!
هو سؤالٌ افتراضيٌّ بالطبع، سأحاول الإجابة عنه، متقمّصاً “ظروف” هذا الكائن، وشخصيّته، مستجمعاً ما يمكن أن يفعله المرء في حالٍ، إراديةٍ أو قسريةٍ، كهذه، داعياً الناس، كلّ الناس الذين يطيب لهم أن يفترضوا مثل هذا الافتراض، إلى البحث عمّا يمكن أن يخترق جدران الحياة العدميّة التي نحياها في لبنان، وإلى اجتراح سبلٍ “إيجابيّة”، خلاّقة، غير معهودة، وغير متعارَف عليها، لتمضية 21 يوماً، وجعلها مراكماتٍ إضافيّة نوعيّة، ونبعاً للفرح والخلق والحرية.
- يتعلّم الصمت. الإنصات إلى الصمت. الصمت الداخليّ والصمت الخارجيّ. يتعلّم الإبحار في هذا الصمت، وصولاً إلى المطارح التي يتيحها الاحتمال المفتوح على مكبوتاته المعلومة وغير المعلومة.
-
ينتبه إلى الحياة التي تحياها الأشياء من حوله: الجدران، الأغراض المنزلية، الطاولات، الكراسي، الغرف، الأبواب، النوافذ، الثياب، الأواني، الكؤوس، الفناجين، الصحون…، محاولاً خلق حواراتٍ أعمق مع ذاته من خلالها، ونسج صداقاتٍ حميمةٍ مجّانيّة مع هذه الأشياء – الكائنات، بغية توسيع المعنى والأفق والدلالة، وفتح المكان والزمان على مغاليقهما، بالإلتفات إلى ما لا يمكن الإلتفات إليه، والتقاط إيقاعاته وموسيقاته غير المدركَة.
-
يقرأ ستّة كتب. في الحيوان، في الطبيعة، في التاريخ، في التراث، في الثقافة، وفي الأدب طبعاً. مشرِّعاً عقله على نذرٍ قليلٍ جدّاً جدّاً – أكرّر: نذر قليل جدّاً جدّاً – من كثيرٍ يفوته في هذه المجالات اللامتناهية أرواحها، ونسائمها، ولطائفها، ومكنوناتها، مركِّزاً وعيه المعرفي على استيعاب الغنى الروحي الذي تتيحه هذه المجالات، ولافتاً في الآن نفسه، إلى ضآلته الشخصية، وأيضاً إلى ضآلة الكائن البشريّ، مطلقاً، أمام عظمة هذه العوالم وكنوزها، ومدى حاجة المرء إليها، أيّاً يكن هذا المرء، لإضفاء معنىً نوعيٍّ جديد على حياته الذاهبة أيّامها إهداراً وفراغاً وعبثاً.
-
يتذكّر الموسيقى. الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز. فيكتشف فضيحته المزدوجة. فضيحة أنه لا يعرف شيئاً “كثيراً” في هذين المجالَين. فضيحة أنه لم يسبق له أن أنصت حقّاً إلى شيءٍ “كثيرٍ” من هذه الموسيقى وتلك، على رغم أن جدران منزله واللوحات المعلّقة على هذه الجدران، “تعترف” له بأنها – أحياناً – تضيق ذرعاً بالموسيقى، وتريد (أي الجدران واللوحات) أن تنصت إلى أرواحها وأجسامها، بمعزلٍ عن أيّ إيحاءٍ موسيقيّ، أيّاً تكن اللذة الناجمة عن هذا الإيحاء.
-
“يقرّر” أن الأعمال الفنّيّة المعلّقة منذ عقود على جدران عقله وروحه ومنزله، تعتب عليه، وتحتاج منه إلى أن “يراها” من جديد، بعينَين جديدتَين، كأنه لم يرها من قبل. فيطلب من عينيه أن تتحرّرا من ذاكرتهما البصرية، وأن تزورا هذه الأعمال، وتمنحاها من العقل والحبّ والصداقة والألفة والرعاية والاحتضان والتأويل، ما يجعلها أكثر اعتزازاً بوجودها، المتجدّد المعنى.
… ثمّ يسأل هذا الكائن نفسه : ماذا في مقدوري أن أفعل أيضاً في هذه الـ 21 يوماً ؟ ليجيب :
- في مقدوري أن أزور ذاتي، بعد طول تغيّبٍ وإهمال، لأستعيدها. لأتعرّف إليها من جديد. لأكتشفها. لأصادقها. ولأجعلها عشيقتي وخليلتي ونديمتي، الأولى والأخيرة.
… في مقدوري في هذه الـ 21 يوماً، أن أبدأ حياتي مع ذاتي من جديد. كما لو أني لم أبدأها من قبل !
عقل العويط