لبنان مغيَّباً والسيّد موسى

يكرّم اللبنانيون، الشيعة منهم خصوصاً، هذه السنة، ذكرى أربعين عاماً على تغييب السيّد موسى الصدر.

يمكنني، بلا تردّد، أن أعتبر هذه الذكرى مناسبةً متوازيةً للجمع بينها وبين “تغييب لبنان” منذ أربعين عاماً.

أنطلق من هذه المناسبة، لأفتح نقاشاً حول موضوع لبنان المغيّب.

قبل ذلك، أذكر أني أحفظ، من جملة ما أحفظ للسيد موسى، وعنه، أني كنتُ لا أزال في صفّ البريفه، في مدرسة الرهبان البلديين في شكا، عندما استمعتُ إليه خطيباً للمرة الأولى، وشاركتُ، كتلميذٍ، في محاورته.

إلاّ أن صورته المحفوظة في آخر طبقةٍ أمينةٍ من طبقات العقل وأعماقه، هي تلك التي تمثّله “واعظاً”، خلفه المسيح المصلوب، في أيام الصوم الكبير، في كنيسة الكبوشية.

كانت الأيّام تلك، لا تزال تومئ إلى أيّام لبنان المدني العلماني الإنسانوي، مطيَّباً بحبر مثقّفيه ومفكّريه وشعرائه وكتّابه وفنانيه، ومضمخّاً بعطور الخوري ميشال الحايك، والخوري يواكيم مبارك، والمطران جورج خضر، والمطران غريغوار حداد، والشيخ عبدالله العلايلي، والشيخ صبحي الصالح.

بل كانت الأيّام تلك، مطيّبةً ومضمخةً، أيضاً وخصوصاً وفي الآن نفسه، بحبر السيّد موسى وبعطوره.

فماذا بقي من تلك الأيّام اللبنانية؟
ماذا بقي من لبنان ذلك الزمان، ومن رؤيوييه؟
ماذا بقي من أهل العقل والسؤال والنقاش والنقد والاختلاف والحرية والتنوّع والمجادلة الفلسفية والوجدانية والحوار والتفكير والعلمنة والمدنية والأنسنة والمعايير القيمية والأخلاقية؟
ماذا بقي من صنّاع الفكرة اللبنانية عن لبنان، بلداً للإنسان والأنسنة؟
ماذا بقي من لبنان الشاعر؟ من لبنان الثقافي العقلي؟
ثمّ، ماذا بقي من موارنة ذلك الزمان؟
من سنّته؟
من شيعته؟
من دروزه؟
من أرثوذكسييه؟
من رومه الملكيين؟
ومن ملافنة طوائفه الأخرى، والعلماء والحكماء؟

يؤسفني أن أشهد قائلاً، مجيباً عن السؤال – الأسئلة، ولكن من دون تعميمٍ متعسف :

لم يبقَ شيءٌ كثيرٌ يُذكَر. لم يبقَ شيءٌ كثيرٌ يُذكَر على وجه التقريب.

تاركاً، بالطبع، للاستثناء، أن يخفّف غلواء هذه الشهادة المخزية والمفجعة.
أعود إلى صورة السيد موسى في الكبوشية.

لكن، أأعود إليها لأنّ إماماً شيعياً كان يؤمّ المصلّين والصائمين في هيكلٍ للعبادة المسيحية؟!

كلاّ.

لكن، أأعود إليها لأن صورةً كهذه، لا بدّ من أن يكون قد استخدمها كثيراً، ولا يزال يستخدمها، دعاةٌ “الفولكلور الحواري المسيحي – الإسلامي”، ودعاة جعل لبنان واللبنانيين مسوخاً طائفية ومذهبية وغرائزية، حاقدة وعنيفة واستئثارية وإلغائية، من أسوأ الأنواع وأبشعها قاطبةً؟

كلاّ.

أعود إلى تلك الصورة لأقول إن السيّد موسى ليس وحده هو المغيَّب.
لبنان كلّه مغيَّب.

“الإنسان” في لبنان هو المغيَّب. وأنتم، بقادتكم، بزعمائكم بحكّامكم، بأولياء أموركم، بأمراء طوائفكم، ومذاهبكم، وأحزابكم، تشاركون في “مؤامرة” التغييب هذه.

تاركاً مرةً ثانيةً، للاستثناء، ومفسحاً له، أن يخفّف غلواء هذا التعميم، وتعسفيته.

أذكر أن السيّد موسى ختم خطبته في الكبوشية بقوله: “لنلتق أيها المؤمنون والمؤمنات على صعيد الإنسان، كل إنسان، إنساننا في بيروت، وإنساننا في الجنوب، إنساننا في عكار، وإنساننا في ضواحي بيروت، في الكرنتينا، وحي السلّم.

هذا الإنسان ليس خارج الفرصة، ولا معزولاً ولا مصنَّفاً. فلنحافظ على إنسان لبنان لكي نحفظ هذا البلد أمانة التاريخ وأمانة الله”.

على هامش عظة السيّد المغيّب، تلك، فلنلتق حول لبنان، وحول إنسانه.

وإذا كان ثمة مسعى جدّي حقيقي، لاستعادة الإمام المغيَّب، السيّد موسى، فليتجلَّ عملانياً هذا المسعى، الآن، وفوراً، وفي خلال هذه السنة، بالعمل، الفعلي لا اللفظي والفولكلوري، على كشف اللثام عن غوامض مسألة تغييب السيد موسى، ومباشرة رفع الحظر عن تغييب لبنان، وتغييب إنسانه.

الآن، وفوراً.

عقل العويط

اخترنا لك