أنا الحاكم بأمري

في بلجيكا، المقسومة لغوياً وإدارياً بين الناطقين بالفرنسية في والونيا – بروكسيل، والناطقين بالفلامنكية في فلاندر، والناطقين بالجرمانية، ثمّة مكانةٌ لا يُسمَح لأحدٍ، أو لفريقٍ، بتجاوزها، مهما كبر حجمه، ومهما اشتدّت الأزمات، وعصفت، ومهما تأخّر موعد تأليف الحكومة، أو سوى ذلك من استحقاقاتٍ دستوريةٍ داهمة.

الأطراف البلجيكيون المقسومون لغوياً، وإدارياً، كلٌّ منهم يعرف حدوده التي لا يتخطّاها، قيد أنملة. ولا يفكّر أيٌّ منهم في ابتزاز الآخر، جاعلاً الدولة كبش محرقة أو رهينة.
غير ممكن، أن يفكّر – ولا بالمنام – أيُّ طرفٍ منهم في ارتكاب “جريمةٍ” كهذه .

الدولة هي المكان – المكانة غير القابل هناك للابتزاز أو المقايضة، أو المتاجرة، أو المصادرة، أو الترهيب، أو التلاعب، أو الحجز.

الدولة هناك، وحدة الدولة، ومصالحها العليا، فوق كلّ اعتبار.

في لبنان، المنقسم أحزاباً مذهبية وطائفية، ومناطق، ومجالس، وعهوداً، وزعماء عصابات، مكانةُ الدولة عرضةٌ للانتهاب، حيث يُسمَح للجميع بامتطائها، وكسر هيبتها، وتركيعها، وإذلالها، وتمريغها بالعار.

الجميع يفعلون ذلك، جميع الأحزاب والتيارات والقادة. من فوق إلى تحت. فالواحد من هؤلاء، يتجاوز مكان الدولة ومكانتها، مهما صغر حجمه، أو كبر، وأياً يكن، ومهما أتيح له أن يركب مراكب الصلف والعنجهية والاستكبار والاستغباء، مفضِّلاً مصالحه الصغيرة، وأحياناً الدنيئة، على مصلحة الدولة العليا، وجاعلاً لبنان رهينةً وكبش محرقة، ليس في عقله ويده السوداء الملوّثة فحسب، بل في أيدي الأوصياء والمحتلين الأقربين والأبعدين.

كلّ يوم، كلّ ساعة، يرتكبون مثل هذه الجريمة، ولا يرفّ لهم جفن، وبرباطة جأشٍ وبرودة أعصاب، هي ميزة القتلة والمجرمين.

في بلجيكا ثمّة دولةٌ تحاسب، فيما لو فكّر أحدهم في ارتكابٍ وطنيٍّ دولتيٍّ كهذا.

في لبنان، الارتكاب السياسيّ، الوطنيّ الدولتيّ، المجرم، الشبيه بجرائم القتل العلنية الموصوفة في العالم، ليس ثمة دولةٌ موجودة لتحاسب الارتكاب والمرتكب.

لا أستغرب أن يتأخّر تأليف حكومة. في بلجيكا يتأخّر أيضاً تأليف الحكومة. لكن الدولة هناك لا تُغتصَب، ولا الدستور، ولا القانون. ولا تُصادَر حياة الناس، وسعادتهم، ولقمة عيشهم، ومصدر رزقهم، كما هي الحال في لبنان.

هنا، كلّ شيء مباح. فالمهمّ أن أكسر رقبة القانون والدولة والدستور، ورقبة الآخر، لأني لا أفهم ممارسة الحكم والسلطة إلاّ من هذا الزاوية بالذات، ووفق هذا المنطق الإلغائي.

عجلة الدولة هناك في بلجيكا، تسير مثل الساعة. مثل ساعة بيغ بن. ولا تتوقف. ولا تُصاب بعطل طارئ، مقصود أو غير مقصود.

هنا، في لبنان، يجب أن تتوقّف عجلة الدولة من أجلي. ومن أجل مَن يشدّ على مشدّي، أو من أجل مَن يُملي عليَّ مواقفي، تسديداً لدينٍ له في ذمّتي.

أنا الحاكم بأمري، أُلغي الدولة من أجلي!

عقل العويط

اخترنا لك