صعوبات أمام الائتلاف المعارض.. ليس الطريق معبداً أمام قيام ائتلاف واسع لمجموعات المجتمع المدني وقوى التغيير عموماً.
هذه القوى ستكون أمام تحدي إثبات الوجود وإكمال مسيرتها في مواجهات ضغوطات من جهة اليسار بوجه الخصوص لشدها وتذويبها في بوتقته.
استغرق بناء تحالف وطني وقتاً طويلاً حتى تبلور في شكل تحالف ضم ١٢ مجموعة كان حزب سبعة من بينها. أثناء النقاش خرجت مجموعات لم يرغب بها البعض أو لم ترغب هي بالاستمرار. وانضم حزب مواطنون ومواطنات(ح.م.م) في اللحظات الأخيرة قبل الانتخابات.
سبق وتساءل كثيرون لماذا عجز تحالف وطني عن الاستمرار بعد انتخابات كانت صادمة بنتائجها بسبب عدم قدرة التحالف على إيصال أكثر من نائب إلى البرلمان ما خالف التوقعات حتى المتشائمة عن إمكانية إيصال خمسة مرشحين على الأقل.
ورغم وعود وتمنيات بالاستمرار وبأن الانتخابات ليست أكثر من محطة على طريق بلورة تيار سياسي عريض يجمع نخباً وشبيبة في كل المناطق ومن كل الطوائف، ورغم حصول التحالف على حوالى أربعين ألف صوت في تسع دوائر انتخابية من أصل خمسة عشر دائرة. ما يعني أنه لو كان لدى التحالف إمكانية لتشكيل لوائح في كل الدوائر لكان وصل عدد المؤيدين لحوالى ستين ألف مؤيد. رغم كل تلك الإيجابيات، لم يُكتب لتحالف وطني الاستمرار.
مقارنة باليسار العريق والقديم كانت نتائج تحالف وطني مهمة جداً وفاجأت اليسار واليمين وحراس الطوائف أجمعين، ولذلك تمت محاربة التحالف من جميع الجهات. وساهم اليسار بشكل خاص في تشويه سمعة التحالف بالحديث دوماً عن تحالف يضم اليمين، أي حزب سبعة، لا ينال رضاه.
لماذا كان اليسار وبالأخص التقليدي يعارض تحالف وطني ويخاصمه في معظم المواقع رغم تحالفه معه في إحدى الدوائر؟
باعتقادي فإن السبب المعلن وهو وجود حزب “يميني” أي حزب سبعة، ليس أكثر من حجة واهية يختبىء خلفها رفض اليسار التقليدي لبروز قطب سياسي معارض على يمينه، أي في الوسط. برأي اليسار أن المعارضة هي يسارية فقط ولا يمكن أن تكون في الوسط، أي بين اليسار واليمين. وهذا اعتقاد متأصل في أيديولوجيا اليسار بمختلف تنويعاته.
ما حصل بعد انتهاء الانتخابات لم كان مفاجئاً للجميع. بدأت الصراعات داخل تحالف وطني تتكشف وتتعمق. وهي كانت غالباً صراعات شخصية تخبىء طموحات تزعمية وتأخذ طابعاً أيديولوجياً وسياسياً. شيئاً فشيئاً انفرط عقد تحالف وطني وخرج الكثيرون منه، وانتقلت الصراعات إلى داخل كل مجموعة، واتخذت شكل صراع تيارات، كان من نتيجتها تحول مجموعات متوسطة الحجم إلى شلل صغيرة تدور حول قيادات شابة يحدوها الطموح التزعمي من جهة، وتمدها الأفكار اليسارية الأخاذة بالزخم المطلوب.
تحولت مجموعات مثل طلعت ريحتكم و لحقي و لبلدي و بيروت مدينتي إلى مجموعات صغيرة تعج بالتوجهات الراديكالية وأقصى اليسارية.
حصل تباعد ازداد يوماً بعد يومٍ بين مجموعات تحالف وطني ولم يبق في النهاية غير عدد يقل عن أصابع اليد الواحدة، وازداد التشظي كما أشرنا داخل تلك المجموعات، وتشكلت مجموعات جديدة تحوي أعداداً من الشبيبة التي تنتمي لأقصى اليسار، شباباً وصبايا متحمسين ومتعطشين للتغيير وللثورة، تغويهم وتثيرهم أفكار ماركس الشاب وأنجلس وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وباكونين. وبرودون.
من هذا المخاض شهدنا تناسلاً لمجموعات وشلل عديدة أخذت تبلور تياراً أقصى يسارياً يستوعب كل تلك المجموعات الصغيرة ويعيد تشكيلها في توجه راديكالي يلتحم حول قيادات طامحة للتغيير في العمق وفي الأسس وتجهد لاستقطاب الناس عبر هموم مطلبية وشعورٍ عارمٍ بالنقمة.
يعبر بعضهم عن ذلك بالقول إن الناس قد سبقت بكثير أولئك الذين يطالبون بإصلاح النظام. الناس تريد إسقاط النظام القديم وهدمه لبناء شيء جديد على أنقاضه، وأنتم أيها الإصلاحيون تريدون ترميم نظام متهالك.. أنتم فاترون ومساومون ولا نفع منكم، لقد سبقكم الجمهور فزيحوا من الطريق.
هذه هي المعزوفة الثورية المعروفة تاريخياً لأقصى يسار يتمتع بحيوية فكرية وبحركية ونشاطية شديدة التطلب بعيدة الطموحات وعالية الهمة الثورية.
كيف ينعكس كل ذلك على المشهد السياسي للمعارضة حالياً. من جهة نشهد تجاذباً بين اليسار التقليدي المتمحور حول الحزب الشيوعي، واليسار الجديد المتمحور حول من بقي في مجموعات الحراك القديم والمتكتل حول طلعت ريحتكم. ومن جهة ثانية نشهد تجاذباً بين أطراف تحالف وطني حول الماركة (البراند)، ومن يحق له استعماله. حلف طلعت ريحتكم المتموضع في اليسار الجديد يحاول إقصاء حزب سبعة وباقي مجموعات التحالف المشكوك براديكاليتها والمتهمة بالفتور الثوري والمصنفة يميناً أو وسطاً.
في الخلاصة، يبدو أن التوجه حالياً هو لبناء تحالف يساري معارض يجمع اليسار القديم والجديد في مناسبات ومسيرات ومطالب حياتية متفرقة، من دون أن يؤدي ذلك لذوبان مجموعات اليسار الجديد في حزب أقصى يساري واحد. والسبب كما يبدو هو استحالة اتفاق مجموعات راديكالية حول نفس الأفكار والتفاصيل الكثيرة، إذ يوجد دائماً ما يختلفون عليه، إضافة لحساسية عالية عند هذه المجموعات تجاه المركزية وفكرة الزعيم والقائد الأوحد.
في الطرف المقابل لا يمكن لمجموعات وقوى معارضة وسطية رافضة للأدلوجات الثورية أن تبقى في موقف المتفرج على صراع الديوك والشلل، مع ما يرافقه من محاولات الإقصاء التي يمارسها بشكل طبيعي كل من يتموضع يساراً.
هنا تبرز ضرورة أن تنجز تلك القوى الوسطية المهمة المطلوبة من زمن بعيد، وهي بناء أوسع ائتلاف معارض مرنٍ فكرياً وسياسياً وغير قصووي، ائتلاف لا يقصي معارضاً حقيقياً، ولا يعادي اليسار بل يسعى لإيجاد صيغٍ واضحة ومتعددة للتعاون معه. ائتلاف قادر على استيعاب وتأطير كل تلك الطاقات المتجمعة في مختلف المناطق وداخل كل الطوائف والتي لا تجد متنفساً لها، ولا حركة سياسية معتدلة وهادفة تعبر عن تطلعاتها وتستطيع العمل من داخلها لممارسة أقصى قدر من الضغط باتجاه إصلاح حقيقي للنظام.
د. فؤاد سلامة