وطن يُستنزف بين صمت السلطة واستسلام الشعب

بقلم د. سمر أدهم

يُستهل اليوم لبنانُ مرحلةً من الانهيار البطيء، حيث يُستنزَف وطن كامل بين صمت السلطة واستسلام الشعب، فيما تبقى وعود الإصلاح حبرًا على ورق، ولا تغيّر واقع الأزمة شيئًا. ورغم نوايا حكومة نواف سلام ووعودها المتكررة بالإصلاح وإنقاذ الاقتصاد واسترجاع أموال المودعين كما ورد في البيان الوزاري، إلا أنّها فشلت حتى الآن في تحقيق أيّ تقدم ملموس، مما يزيد الشكوك حول قدرة أي حكومة على قلب مسار الدولة الراهن ويُترك المواطن اللبناني أسيرًا بين اليأس والأمل الضائع

في بلد أنهكه الفساد وتآكلت مؤسساته حتى العظم، يبدو أنّ الإنهيار لم يعد حدثًا طارئًا بل أسلوب حياة

الوعود تتكرّر، الوجوه تتبدّل شكلاً لا مضمونًا، والنتيجة واحدة: وطن ينهار ببطء وسط صمت ثقيل وخيبة عامة لم يعد يبدّدها حتى الوهم

لم يعد في لبنان ما يُدهش، الإنهيار الذي كان يُتداول كخطر محتمل أصبح اليوم واقعًا ثابتًا لا يتحرّك إلا نزولًا، في ظل سلطة تتقن فنّ اللامبالاة، وشعب أنهكته التجارب حتى فقد قدرته على الغضب وأصبح يعيش على حافة البقاء

الحكومة الحالية جاءت على وقع وعود “الإصلاح” و”الإنقاذ”، لكنها سرعان ما انزلقت إلى النمط اللبناني الكلاسيكي: الكلام الكثير والفعل الشبه المعدوم

الموظفون في القطاع العام يواجهون واقعًا مهينًا، رواتبهم تذوب أمام جنون الأسعار، إذ أنّ التضخم وصل إلى مستويات جعلت راتب الشهر يكاد يتبخّر مع كل فاتورة كهرباء وفاتورة مياه… والدولة تكتفي بتبريرات واهية عن “العجز المالي” و”أولويات الإنقاذ”. إن العجز عن رفع الأجور ليس مسألة تقنية أو مالية بحتة، بل انعكاس لإرادة سياسية مشلولة، ونظام يفضل أن ينهار البلد على أن يُمسّ توازن الطوائف ومصالح الزعماء. وهل هذا العجز ينطبق على الموظفين فقط ويستثني آخرين، كرواتب النواب على سبيل المثال؟

أما الإستقرار الأمني فلا يمكن الحديث عنه في بلد تُحلّق فوقه المسيّرات الإسرائيلية يومياً، وكأنها تراقب أنفاسنا، المشهد كفيل بأن يُسقط أي وهم بالطمأنينة، وكأننا نعيش في بلد تحوّل إلى ساحة مفتوحة لكلّ الإحتمالات، والسيادة اللبنانية، تبقى مجرّد شعار يُرفع عند الحاجة، إذ ان مصير هذا البلد الصغير ما زال مرهوناً بما يقرّره الخارج، وبما تسمح به التوازنات الإقليمية والدولية، لا بما يريده اللبنانيون أنفسهم

وفي خضم هذا الانهيار الشامل، تستعدّ الطبقة السياسية نفسها لخوض الإنتخابات النيابية القادمة، في مشهد خيالي يعكس عمق المأساة، وكأن من تسبب بالخراب يطمح اليوم لتجديد ولايته على الركام. لكن السؤال الأشد مرارة: كيف يقبل الرئيس نواف سلام، القاضي المشهود له بخبرته الواسعة وتاريخه الدبلوماسي، وهو الذي شارك في وضع القانون الإنتخابي المعروف بـ“قانون فؤاد بطرس”، أن تُجرى الإنتخابات النيابية المقبلة بالقانون الطائفي الحالي الذي صيغ على قياس الطوائف والزعامات؟ أليس من المفترض أن يكون العهد الذي يجمع بينه وبين الرئيس جوزيف عون بداية لمسار جديد، لا استنساخًا لماضٍ فاسد؟ هذا العهد قد وعد بتطبيق اتفاق الطائف، ولكن هل قانون الإنتخاب الحالي يتوافق مع ما ورد في هذا الإتفاق؟ وهل يقبل نواف سلام أن يُسجّل في عهده هذا الصمت المريب أمام استحقاق يفترض أن يكون فرصة لتصحيح المسار لا لتكريس الإنقسام؟

القانون الإنتخابي القائم ليس مجرد نصّ قانوني، بل أداة لضمان استمرار النظام الطائفي وتثبيت أركان المحاصصة. وكل حديث عن إصلاح سياسي في ظلّه ليس سوى شعارات تُستخدم لشراء الوقت. فكيف يمكن لرجل من المفترض أن يمثّل الضمير القانوني والسياسي للبنان أن يرضى بأن تمرّ هذه الإنتخابات بلا مواجهة حقيقية مع هذا القانون المشوّه؟

في النهاية، لا يمكن إنقاذ بلد لا يريد أن يُنقَذ. لا يمكن لسلطة تتقن المراوغة أن تواجه الحقيقة، ولا لشعب جُرّد من أدوات الضغط والمشغول بالبحث عن لقمة العيش، أن يُغيّر مسار الإنهيار. لبنان يعيش اليوم بلا مشروع، بلا دولة، وبلا ثقة. كل ما تبقّى هو إدارة البؤس وتأجيل السقوط النهائي، في انتظار من يملك الجرأة يومًا لكتابة شهادة وفاة النظام الطائفي دون خوف أو مواربة

لعلّ ما تبقّى لهذه الحكومة أن تمتلك شيئاً من الجرأة السياسية والوعي الوطني وأن تكتب هذه الشهادة لهذا النظام الطائفي المتهالك، لا أن تبقى شاهدة على انهيار الوطن وموته البطيء. فإما أن تُسجَّل في ذاكرة اللبنانيين كحكومة كسرت قيد الطائفية، أو تُطوى صفحتها في سجلّ طويل من العجز والخيبة مثل سابقاتها

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com