ضدّان … و يلتقيان ؟

بقلم د. ميشال الشمّاعي

القناعة السائدة اليوم تنقسم بين وجهتي نظر: الأولى تعمل على تعميم مبدأ التعطيل على مرافق الدّولة كلّها، بعدما نجحت في اجتراح نهج سياسي جديد لا مثيل له في العالم كلّه، أطلقت عليه في كتاباتي مصطلح :” الديمقراطيّة التعطيليّة”. أمّا الثانية فتعمل على تثبيت نهج الدولة بما هي عليه، وتفعيل ما تبقى من مؤسّسات فيها خدمة للإنسان، وليس للمنظومة أو لأيّ تنظيم أو منظمة أو حزب؛ وبالطبع ليس خدمة لأيّ دولة، أو بهدف نشر عقيدة أو فكر لا يشبهنا كلبنانيّين أحرار. فهل هاتان الوجهتان تلتقيان في السطوح وتختلفان في الأعماق؟ أمّ تختلفان في السطوح وتلتقيان في الأعماق؟ أم أن هنالك استحالة للقاء بينهما بالمطلق؟ وبالتالي ما هي الحلول الممكنة والمقبولة ؟

لا يختلف عاقلان على أنّ واقع الحال ” مش ماشي” راهنًا. ولا يمكن الاستمرار فيما نحن عليه. ولكن هل يعني ذلك السير نحو المجهول، على قاعدة أنّه لن يكون أسوأ ممّا نعيشه اليوم؟ فالتعطيل الذي نجح محور الممانعة بتكريسه نهجًا سياسيًّا للسيطرة أوصل البلاد والعباد إلى هذه الحالة من التجمّد السياسي. فما من ملفّ يمضي قُدُمًا إلّا إذا كان في خدمة المنظومة الحاكمة. فالنّظام السياسي في أيّ بلد في العالم يكون لخدمة الشعب. ولا يكون الشعب في خدمة النّظام، كما هي الحال في الدّول المتخلّفة والرّجعيّة والتوتاليتاريّة والديكتاتوريّة. وللأسف هذه حالنا في لبنان، حيث أضحى العائشون هم خدّام النّظام الذي تسيّره المنظومة المُصَانَة بسلاح المنظّمة، وببركة مرشدها. وكلّ ما يتعارض مع مسار هذا النّظام يتمّ تصفيته إن كان سياسيًّا أو حتّى جسديًّا.

التعطيل المعتمد يفرغ الدّولة من جوهر وجودها، فتتحوّل بالتّالي إلى هيولة أي مادة ليس لها شكل ولا صورة معينة قابلة للتشكيل والتصوير. وهذا المشروع الذي نجح في الشرق الأوسط انطلاقًا من انموذج الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران. ولعلّ الهدف منه يعود إلى تثبيت المشروع الثورويّ الذي تحمله هذه الثورة منذ تاريخ بدئها. فإذا كانت الدّولة موجودة، تصبح هي المرجع للنّاس كلّهم. وذلك لأنّها الزّاوية الأساس من مثلّث وجود المجتمعات الذي يرتكز على ثلاثيّة الشعب والأرض والدّولة. ولتنجح هذه الثورة بنشر الفكر الذي تحمله، هي بحاجة لأن تسيطر على هذا المثلّث. فالسيطرة تبدأ بالدّولة، يليها الأرض عبر خلق تنظيم يفرغ هذه الدّولة ليتحوّل هذا التنظيم بدوره إلى المرجع الأوحد. وبذلك تتمّ السيطرة على الشعب. وهذا ما جسّده الحرس الثوري في إيران الذي نجح بتغييب الدّولة وإفراغها وبالسيطرة على الأرض، وبالتّالي صار بذاته المرجع الوحيد للشعب بعدما أفرغ الدّولة من مرجعيّتها. وعاث بنشر أفكاره الايديولوجيّة ليحكم بوساطتها هذا الشعب.

هذه حقيقة المشروع الذي يحمله هذا الفكر. ولقد دخل أربع عواصم وهو منذ تاريخ دخوله يعمل على السيطرة على شعوبها عبر تفريغ دولها من جوهر وجودها. فأنشأ التنظيمات المسلّحة تحت ذرائع مختلفة، قد تكون محقّة أحيانًا، كما هي الحال في لبنان، إذ إنّ مقاومة أيّ عدوّ هي واجب كلّ دولة فيها احتلال. ولينجح بتملّك هذا الحقّ وبحصريّته عمل على إفراغ الدّولة اللبنانيّة من جوهر وجودها، فأضعفها بحمايته الفساد، وبحيازاته السلاح غير الشرعي، وبتعطيل الديمقراطيّة فيها. وبذلك عمل على بسط سيطرته المطلقة على المكوّن الحضاري الذي ينبثق منه، كما على ترهيب أو ترغيب سائر المكوّنات. وبذلك أحكم قبضته على الدّولة كلّها. وهجلّ ما يريده تعميم ثقافته وعقائدته على الطريقة النّاعمة، ولا يوفّر استخدام فائض قوّته ليضبط إيقاع مشروعه، بما يتناسب وقناعاته الايديولوجيّة.

مقابل ذلك، يبرز الخطّ الذي يعمل بكلّ ما يملك من قوى شعبيّة وسياسيّة ليعيد الانتظام إلى الدّولة، فتعود بدورها المرجع الوحيد للبنانيّين كلّهم. وبعودتها يتحرّر الخائفون من أيّ سطوة، مهما اختلفت طبيعتها، سواء اكانت أمنيّة أم عسكريّة أم اقتصاديّة أو حتّى إيديولوجيّة -دينيّة – عقائديّة. من هنا بالذات نفهم لماذا يحمل هذا الفكر في ثناياه مشروع القضاء على الدّولة وتفكيكها، أو تعطيلها خدمة لأجنداته وحساباته الخاصّة.

المشروعان ضدّان. ويلتقيان في الأعماق على وطن واحد. هما في السطوح ضدّان. وضدّان معكوسان في الأعماق. فمشروع التعطيل يريد لبنان ولكن ليس كما تمّ التوافق على صورته وهويّته وثقافته الحضاريّة. بينما مشروع الدّولة مؤمن بأن الحال كما هو “مش ماشي” لذلك يدعو إلى تطبيق الدّستور توصّلًا إلى تطويره نحو صيغة جديدة يلتقي حولها اللبنانيّون في السطوح والأعماق. لا كما هو واقع الحال منذ تاريخ تأسيس الميثاق وتطويره بالوفاق حيث اللقاء في السطوح والخلاف في الأعماق.

أين الخطيئة في قول الحقيقة كما هي !

هل المطلوب أن نُؤْثِرَ ما في السطوح إيثار سواد النّاس المستسلمين للأمر الواقع، وندخلَ في بازارات الصفقات، وتبادل الأصوات في الانتخابات، سواء أكانت نيابيّة أم نقابيّة أم حتّى بلديّة واختياريّة على أن نحافظ على قناعاتنا ومبادئنا وكرامة دماء شهدائنا ؟

أم نُؤْثِرُ ما في الأعماق، فنحافظ على صورة وطننا البهيّة، ونكسر هذه المرآة التي نجح المشروع المعطِّل بوضعها أمام ناظري جماهيره، بعد غسله أدمغتهم بالأدلجة والتحريض والتمرّس بتخوين الآخر وأسرلته وأمركته وصهينته، ليريهم صورة حفرها فيها غير صورتهم الحقيقيّة، حتّى باتوا هم أنفسهم مقتنعين بأنّهم لا يشبهون أترابهم في الوطن ؟

أم أنّك يا أخي بالوطن والمواطنيّة والكرامة والحرّيّة والأهم، أخي بالانسانيّة، تساوي بين الأضداد، في السطوح والأعماق، وتلقى أيّ ضدّين مَثِيلَينِ على قاعدة “كلّن يعني كلّن” ؟

بصراحة، لست أدري بعد ما مررنا به من مأساة في هذا الوطن الذي ما زال حتّى هذه الساعة يرفض الموت، ما قد تُؤْثِرُ أنت. لكنّني أدري جيّدًا ما أوْثر أنا. فهل سيأتي اليوم الذي أنت تُؤْثِر ؟

اخترنا لك