على رغم مأسوية المشهد الذي شغل الناس وكان حديث الجميع، الذي لا حديث قبله ولاحديث بعده، فإنني سأحاول أن أتمالك أعصابي والاّ أنجرّ إلى قول كل ما في القلب، لأن ما فيه قد يطال من يعتبر نفسه “ظل الله على الأرض”.
جورج زريق يحرق نفسه دفاعًا عن عائلته، بغض النظر عن الأسباب والدوافع، وبغض النظر عمّا إذا كان يعاني من أزمات نفسية – على فكرة من منّا لا يعاني كما جورج من أكثر من إزمة نفسية – فإن هذا المشهد قد يتكرّر في كل يوم، وفي أكثر من منطقة لبنانية، وبالأخصّ تلك المناطق التي تعاني من الفقر المدقع ومن إهمال الدولة لها.
من لم يعانِ ما عاناه جورج قبل أن يضرم النار في جسده لن يفهم ماذا حصل معه، أو بالأحرى يحاول أن يقنع نفسه بأن لهذه الحادثة خلفيات نفسية مزمنة، وذلك من أجل أن يخفّف عن نفسه وطأة “وجع الضمير”.
بإختصار ومن دون لفّ أو دوران، نقولها بالفم الملآن أن ما قرره جورج لمصيره قد يجول في رأس كل لبناني تشبه ظروفه ظروف هذا الوالد، الذي آلمه الظلم أكثر من ألم النيران، التي ألتهمت جسده الضعيف، وما أكثر “الجراجرة” في لبنان.
وما أكثر الذين صدّقوا أن في لبنان دولة قادرة على حمايتهم، وهي التي تركتهم تسعة أشهر تقريبًا يتمرمغون في وحول مصائبهم، وقبل ذلك تركتهم سنتين ونصف السنة ولم تسأل عنهم ولم تكلّف خاطرها لتسأل كيف يتدّبرون أمورهم، وهم الذين يعيشون من “قلة الموت”؟
لو كان في لبنان دولة لكان جورج زريق اليوم لا يزال يكافح من أجل تأمين لقمة عيش عياله وضمان مستقبلهم.
ولو كان في لبنان دولة لما مات، ويموت كل يوم مريض على ابواب المستشفيات، لأنه لا يملك ما يكفي من كلفة طبابته.
لو كان في لبنان دولة لما كان الموظف، الذي لا يكفيه راتبه حتى منتصف الشهر، يرتشي، وهو الذي يُحمَّل مسؤولية الفساد الأكبر، الذي ينخر المؤسسات، من خلال صفقات بالمليارات، وليس بعشرة الآف ليرة من هنا ومئة ألف ليرة من هناك، مع أن هذا الأمر لا يبرّر ما يقدم عليه الموظف المغلوب على أمره.
لو كان في لبنان دولة لما كان الآف الشباب الذين يتخرّجون بشهادة “عاطل عن العمل” يضطّرون إلى التفتيش عن وظيفة خارج الحدود.
لو كان في لبنان دولة لما كانت نسبة الإنتحار إلى تزايد.
لو كان في لبنان دولة لما استطاع الذين يسّمون أنفسهم مسؤولين أن يناموا بالأمس ملء جفونهم، بعد سماعهم بخبر حرق جورج نفسه.
لو كان في لبنان دولة لكانت حال المدارس الرسمية على غير ما هي عليه الآن، ولما أفسحوا في المجال أمام المدارس الخاصة لمصّ دماء الأهالي، الذين يوصلون الليل بالنهار من أجل تأمين ما تعجز عنه دولتهم، وهو حق لكل لبناني يدفع من لحمه الحيّ لكي لا يرى أولاده يعانون في المستقبل ما يعانيه هو.
لو كان في لبنان دولة لما كنا جميعًا مشروع “جورج” جديدًا!
اندريه قصاص