عسكر العهد القوي بلا غطاء

أشعلت مواقف وزير المال علي حسن خليل الأخيرة بشأن التدبير رقم 3 المطبّق في كافة الأجهزة الامنية والعسكرية السجال الساخن أصلاً بسبب توجه الحكومة، عبر موازنتها الاستثنائية في “تقشفها”، الى الاقتطاع من “مكتسبات” العسكر، إن كان في مجال المترتبات المالية للتدبير رقم 3 أو بعض التقديمات الممنوحة للقوى العسكرية.

هكذا تقاطع رأي وزير المال مع آراء العديد من السياسيين، وحتى من ضباط باتوا اليوم خارج الخدمة، باعتبار أن التدبير رقم 3، الذي يعكس درجة إستنفار عالية وبموجبه ينال العسكري تعويض ثلاثة رواتب عن كل سنة بعد 18 سنة خدمة، يمنح “إمتيازات” مالية للعسكر، في الجيش وقوى الأمن والأمن العام وأمن الدولة، غير مبرّرة ولا تستحقها الغالبية العظمى من هؤلاء!

حين نتحدّث عن إستنفار وجهوزية يحضر الجيش على رأس القائمة. هي المؤسسة الأمّ التي تضمّ العدد الأكبر من القوى العسكرية (أكثر من 80 الف ضابط وعسكري)، وبحكم الأمر الواقع، وبعد طي صفحة الحرب الأهلية وتدشين “عهد الطائف”، ألقيت على عاتق المؤسسة العسكرية أوزاناً ثقيلة تداخلت فيها الأدوار السياسية بالعسكرية والأمنية بين الحدود والداخل، ووصلت الى حدّ لعب دور محوري يوم عصفت بالداخل، وعلى أكثر من مرحلة، أزمات سياسية حادة تربّع فيها الفراغ على “عرش” إدارة البلد.

All in one. معادلة تنطبق على الجيش واللائحة طويلة: مواجهة الارهاب، بكافة أشكاله، أمن المخيمات أو ما يصطلح على وصفه بالقنابل الموقوتة، الانتشار على الحدود، أمن المهرجانات، والانتخابات، والأعياد، ودور العبادة، والمباريات الرياضية، والتظاهرات، مكافحة الجريمة المنظمة، مواجهة أوكار مروّجي المخدرات، مداهمات ودوريات وإقامة حواجز، وصولاً حتى الى المؤازرة في إزالة التعديات على الأملاك العامة… !

بالتأكيد، الجيش اليوم هو في بوز مدفع الدفاع عن حقوق عسكرييه. خلفه تتلطى بقية الأجهزة الأمنية للإبقاء على “مكتسباتها” في حال الدفع بإتجاه إلغاء التدبير رقم 3. حتى اليوم، التطمينات بالمفرّق لا تخفّف من وطأة هواجس العسكريين من “تقشّف” الحكومة على حسابهم، فيما مزاريب الهدر لا تزال “فالتة” وعناوينها معروفة وفاقعة واستفزازية. ثمة من لا يزال يمصّ دمّ الدولة، بوجود رواتب خيالية لبعض الموظفين الكبار ومزاريب هدر وفساد وصلت الى “مجارير” الرملة البيضاء ولا من يحاسب!

فات من يُمعِن في سياسة التقشف بأن التباهي في “التشحيل” من رواتب كبار القوم، من موظفين محظيين في المؤسسات والادارات العامة، والتي يصل بعضها، باعتراف وزير المال، الى عشرات آلاف الدولار شهرياً، لن يهزّ هؤلاء! هذه الفئة تحديداً من الموظفين اغتنت “لولد الولد”، واشترت العقارات، وبنت الفيلات، وكزدرت في عواصم العالم على حساب المال العام… وستعيش من فائدة “إمتيازاتها”، المتراكمة منذ التسعينيات حتى اليوم، من دون أن يرفّ لها جفن، فيما الغالبية العظمى من العسكر همّ من أصحاب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتعويضات نهاية الخدمة كما المعاشات التقاعدية، “تسترهم”، مع عائلاتهم، في مرحلة التقاعد.

هكذا، لا نية حكومية في إلغاء التدبير رقم 3، لكن التوجه المؤكد سيكون لحصر تطبيقه “بعدالة”، وفق منطق وزير المال، بحيث يشمل فقط القطعات أو الضباط والعسكر الذين يخدمون على الحدود وضمن قطعات قتالية وعملانية”، مع العلم ان الملف لا يزال موضع نقاش لم ينته بعد بين وزارة المال وقيادة الجيش.

يذكر أنه بين أعوام 2000 و2006 طبّق هذا المعيار والتزم به الجيش، لكن معظم الاجهزة الأمنية الأخرى لم تلتزم به، وقد أتت لاحقاً حرب تموز لتفرض حالة الاستنفار مجدداً وإعادة العمل بالتدبير رقم 3 الذي لا يزال قائماً حتى اليوم.

وتفيد المعطيات، بأن مشروع الموازنة يتضمّن بنودأ، من ضمن سياسة “الإقتطاع” من التقديمات الممنوحة لموظفي القطاع العام، تتعلق بإجراءات في شأن إعادة النظر بالتدبير رقم 3 وأوجه تطبيقه، إضافة الى تخفيضات في مجال التقديمات الاجتماعية الممنوحة في المؤسسات الامنية والعسكرية وتشمل مثلاً خفض عدد قسائم البنزين، وتقليص عدد السيارات الموضوعة بتصرّف الضباط، خفض منح التعليم لأبناء الضباط والعسكريين، وإعادة النظر في كيفية إحتساب الرواتب التقاعدية للعسكريين المتقاعدين، وطلب تجميد الترقيات إلا في حالات الشغور التي تستدعي الترقية الحتمية لملء هذا الشغور.

وعَكَس الاجتماع الذي عقده وزير المال وبعض مساعديه مع وفد من قيادة الجيش يوم الخميس انفتاح المؤسسة العسكرية على سلسلة تخفيضات تطال بعض التقديمات وفي الوقت نفسه تم عرض واقع المؤسسة بالارقام، مع العلم أن العماد جوزف عون، ومنذ تعيينه قائداً للجيش، التزم بأكثر من خطوة “إصلاحية” وتقشفية داخل المؤسسة. وتخوض القيادة النقاش مع وزراة المال، وفي الاروقة السياسية، من منطلق المساهمة في تخفيض العجز، لكن من دون المسّ إطلاقاً في معنويات العسكر وحقوقهم المكتسبة، ومن دون التبخيس من تضحيات الجيش، مع العلم أن الرأي الغالب في قيادة الجيش هو في رفض تطبيق التدبير رقم 3 بشكل مجتزأ.

كل ذلك لا يلغي الكلام الكبير الذي يقال داخل أروقة المؤسسة العسكرية، مع دعوات لمن يغالي في الدفاع عن الاجراءات التقشفية للحكومة بـ “تقديم رواتبكم للمؤسسة العسكرية التي قدّمت آلاف الشهداء والجرحى”. أما الطرح القاضي بحصر تطبيق التدبير رقم 3 من خلال الفرز بين الاداريين وبين من يخدم في قطاعات قتالية وعلى الحدود، فيُواجه بسؤال “في هذه الحال ماذا نصنّف قائد الجيش؟ وماذا عن مدير العمليات؟ أي تدبير يطبّق عليهما 1 أو 2 أو 3؟ ما المعيار العادل للمستحق وغير المستحق تحديداً في الجيش؟ ثم أين العدالة الاجتماعية في الفوارق في التعويضات التي نالها عمداء وضباط قبل أشهر وسنوات وأولئك الذين سيخرجون بتعويضات قد تصل الى النصف بفعل إلغاء التدبير رقم 3؟ وكيف يمكن التعويض على عسكري أو ضابط لا يخدم على الحدود لكن يؤمّن ساعات عمل إضافية خارج الدوام في حال لم يشمله هذا التدبير؟ وكيف يمكن المقارنة بين الجيش الذي تتراوح صلاحياته بين مكافحة الارهاب وضبط الأرض وصولاً الى مكافحة السرقة والمخدرات وإقامة حواجز التفتيش وبين باقي الأسلاك العسكرية التي يؤمّن عناصرها بغالبيتهم الساحقة دوامات عمل عادية؟ وهل خطر على بال “المتقشفين” أن إلغاء التدبير رقم 3 في معظم قطعات الجيش يعني خفض الجهوزية والإنكفاء نحو الثكنات، إلا إذا لا مشكلة لدى الحكومة في تقوية عود الاقتصاد على حساب أمن اللبنانيين؟!

في مقابلته التلفزيونية قبل أيام وَصَف وزير المال الاعباء المترتبة على تطبيق التدبير رقم 3 عند دفع التعويضات ب “الكبيرة جداً والموازنة العامة لا تستطيع تحمّلها، وهي غير منطقية وغير منسجمة مع الأصول”، قائلاً “هذا التدبير حق واجب الحفاظ عليه، لكن العسكري الذي يؤمّن دواماً عادياً، وعناصر قوى الامن التي تؤمّن أيضاً بغالبيتها دوامات عادية، وعنصر الامن العام الذي يعمل على الجوازات ويترك مكتبه الساعة 2، وشرطي مجلس النواب الذي لا مهام لديه على الحدود، لماذا إحتساب سنة هؤلاء بثلاث؟”.

وذهب وزير المال أبعد متسائلاً “كيف يمكن إحتساب 40 سنة خدمة لعميد في السلك العسكري عند قبض تعويضه، وكأنه خدم 120 سنة! هذا أمر غير مقبول، إلا إذا هذا العميد قضى خدمته في الاعمال العسكرية. وهذا على راسنا. لكن لا يجوز إعطاء هذا الحق لكل من يخدم في الاسلاك العسكرية والامنية ممّن يؤمّنون دوامات عادية”.

بمطلق الأحوال، أطلق كلام الوزير خليل ليل الخميس نقاشاً لا يتوقع أن تنتهي إرتداداته بسهولة، خصوصاً أنه تمّ تصوير العمداء والضباط في نفس منزلة الموظفين المحظيين في المؤسسات العامة الذين تجاوزت رواتب بعضهم راتب رئيس الجمهورية، وأكلوا وشربوا وكزدروا على حساب مال اللبنانيين مقابل “صفر” تضحية، وهو الأمر الذي لا ينطبق على أي جندي أو ضابط من لحظة إرتدائه للبزة العسكرية لأنه بكل بساطة “مشروع شهيد”. حسناً، ما المغزى من دولة “عَوهَرت” طبقتها السياسية على مدى عقود وسرقت ونهبت وانتفعت واغتنت، ثم قرّرت في يوم “التوبة”، وتحت ضغط شروط “سيدر”، أن تمدّ اليدّ الى مال “المنكوبين” أصلاً بسياستها؟!

ربما أكبر المفارقات التي طبعت حلقة الوزير خليل، صاحب التوقيع على كل معاملة مالية من أكبر الى أصغر موظف، ليس فقط أنه كشف عن كمّ هائل من الارتكابات بحق المالية العامة ترتقي الى مستوى الفضائح، إنما إعلانه عن هذه الارتكابات وكأنه اكتشف لتوّه أن “الدولة” مسروقة ومنهوبة!. السؤال الأهمّ، هل يا ترى الرئيس نبيه بري، أحد أكبر اللاعبين السياسيين منذ الطائف حتى اليوم وصاحب مقولة “عند المحاصصة أريد حصتي”، مصدوم أيضاً بأرقام معاونه السياسي؟!”.

كارلا الزين

اخترنا لك