نهاد المشنوق نحو إحياء المقاومة السياسية

فجـّر رحيل البطريرك مارنصرالله بطرس صفير عواطفَ اللبنانيين وأعاد إحياء ثوابتهم الوطنية المتجسدة في شخصِ ومسيرة ومبادئ “بطريرك الإستقلال الثاني” ، بعد أن كسا غبارُ الأزمات واللطمات المتعاقبة القوى السيادية ، فتدهورت أحوالُ البلد إلى قاعٍ بلا قرار ، تتوالد فيه الأزمات وتتصاعد بلا حدودٍ ولا ضوابط.

أظهرت مواقف اللبنانيين مدى رسوخ القيم السيادية في ضمائر المواطنين من جميع الطوائف والمذاهب ، الذين عبّروا بحضورهم خلال إنتقال النعش من المستشفى إلى مقر البطريركية في بكركي ، وخلال التشييع ، أو عبر وسائل التواصل الإجتماعي.

مما جعل الطبقة السياسية متأخرة في التعبير والمبادرة ، بإستثناء القوات اللبنانية التي كانت قيادتـُها وجمهورُها حاضرَين منذ اللحظة الأولى لإعلان وفاة البطريرك صفير ، مقابل فتورٍ عوني وفلتاتٍ من ألسنة بعضهم طعناً وتجريحاً بالراحل الكبير.

أكد حراك الناس أنهم دائمو الإستعداد لإستعادة تجربة 14 آذار بدون تردّد ، بل إن الجمهور اللبناني السياديّ متعطش لمثل هذه المبادرة ، ويتوق لتحرّكٍ يكسر أغلال وقيود التسوية التي كبـّلت الوطن ، وسمحت بطغيان مغامرين يقامرون بمصير الوطن من خلال الجموح السياسي الذي يضرب قواعد الدولة من أساسها.

كانت أغلب المواقف السياسية أقرب إلى رثاء الراحل الكبير ، والبكاء على الأطلال وإستذكار مآثر البطريرك صفير وسحر مرحلة 14 آذار وأهميتها في تاريخ لبنان الحديث.

لكن النائب نهاد المشنوق ، وكعادته في المحطات الكبرى يأبى إلا أن يضع بصمته على طريقته في مقاربة الأحداث وإستخلاص العبر ، حيث كان من القلائل الذين ربطوا بين الماضي والحاضر ، وقدّموا رؤيةً متماسكة لمواجهة التحديات ، بالإستناد إلى ما راكمه الكبار ، من مفتي الجمهورية الشهيد حسن خالد ، فالشهيد رفيق الحريري ، وصولاً إلى البطريرك الراحل مارنصرالله صفير ، وهو ما عبّر عنه في مقاله المنشور على صفحات جريدة النهار تحت عنوان:”16 أيار:المفتي الشهيد والبطريرك العنيد”.

ولعل ما أثار شجن اللبنانيين هو ذلك التزامن المؤثر والمقدّر من العناية الإلهية ، بين ذكرى إستشهاد المفتي حسن خالد ورحيل البطريرك صفير ، وما إستذكره العارفون من صلة صداقة عميقة بين الرجلين ، دفعت بطريرك الوطن إلى فتح أبواب بكركي لتقبل العزاء بإستشهاد المفتي خالد ، وحرص الأخير على الشراكة مع المسلمين ومواجهة الإحتلال بالموقف والثبات الذي تكسرت على صخرته أمواج نظام الإرهاب القابع في الشام.

عاصر المشنوق المفتي حسن خالد وعايش البطريرك صفير ، وهو يدرك طبيعة المرحلة ويستقرئ ما تحمله قادمات الأيام من تحدياتٍ وواجباتٍ وفـُرَصٍ ، وكأنه بما كتبه يحدّد تموضعه المقبل ويوضح أولويته في العمل السياسي ، بعد فترة صمتٍ تلت الإنتخابات النيابية ، ويبدو أنها تشارف على نهايتها.

ربما أخذت الوزارة من المشنوق أكثر مما أعطته ، وربما كانت خسارته الأكبر إضطراره لسلوك درب التسويات وسكوته عن الكثير من الثغرات التي أدّت إلى تفكيك “ثورة الأرز” وتناثر قوى 14 آذار وتقدّم محور إيران في لبنان.

تكمن أهمية موقف المشنوق في أننا نلِجُ مرحلة جديدة بدأت تتغير فيها ملامح المشهد ، وتبرز متغيراتٌ في المواجهة القائمة مع محور إيران الذي يأخذ لبنان رهينة ويضرب علاقاته العربية والدولية.

أعاد المشنوق في ما كتبه عن المفتي الشهيد والبطريرك العنيد صياغة المشهد والموقف ، بما يليق بمقام الكبيرين اللذين جسدا العيش الواحد والرؤية المشتركة والتكاتف في مواجهة “الإحتلال السياسي” ، وليؤكد أن كل موجبات المقاومة السياسية لا تزال قائمة وهي واجبةُ الإستمرار لأن معركة إستعادة الحرية والسيادة والإستقلال مستمرة ، وهي اليوم تدخل مرحلة جديدة ، في ظروفٍ مختلفة ، لكنها تستوجب العمل لإيجاد مسالكَ جديدةٍ تستجيب لهذه التحديات.

أسف المشنوق لإهمال أهل بيروت إحياء ذكرى إستشهاد مفتيهم الشيخ حسن خالد ، داعياً إلى “إيقاظ الوفاء فينا” وإلى الإستمرار في المقاومة السياسية ، وكأننا أمام ضرورة العودة إلى إحياء مسيرة هؤلاء الكبار في خطابنا السياسي والإعلامي لإستعادة الأمل وإحياء المبادرة..

ولعل أوضح ما قاله المشنوق وأكثره تعبيراً ، قولُه :”نتذكّر المفتي الشهيد ونشيّع البطريرك العنيد، ليستيقظ فينا وفاءٌ كدنا أن ننساه، وهو الإلتزام بشهادة المفتي وبثبات البطريرك، فلا خلاص للبنان إلّا بما تركاه من دروس، وهي أن نستمرّ في المقاومة السياسية، على ثغور لبنان، وفي وديان السياسة وعلى جبال “الاحتلال السياسي”… وهو لن يطول.”

تحدّث المشنوق عن الإحتلال المتنقل بين الطوائف من جهة ، وبين المذاهب من جهة أخرى ، ملاحظاً أن قلةً تجرؤ على الوقوف والإعتراض. ولا يجد المراقب كبير عناء في تحديد أن المقصود هنا حالة مسيحية مستفزة تعمل دون كللٍ للإستفراد بالتمثيل ودون ودون نجاحٍ أيضاً ، ولا تعرف طريقاً للشراكة غير التحدّي والإعتداء على الآخرين.

وسياسة إيرانية ثبت بالوجه الشرعي أنه ليس لديها ما تقدمه للعرب ، ولبنان من ضمنهم ، سوى الحروب والاضطرابات والإنقسامات في الولاية الوطنية. الأولى يمثلها جبران باسيل بنجاحٍ منقطع النظير ، والثانية يعبـّر عنها “حزب الله” تحت عبادءة الدولة المحتلة. ومن الواضح أيضاً أن المشنوق وضع نفسه في طليعة المعارضين لهذا السلوك الإستفزازي والمهدّد للإستقرار والوحدة الوطنية.

في زمن التصحّر السياسي ، تكاد المواقف الكبرى تتلاشى تحت وطأة تداعيات تحوّلات الإقليم على لبنان ، ولا نكاد نلمح شخصية نيابية أو وزارية تطلق خطابها بسقفٍ مرتفعٍ ، ليس على طريقة المزايدات الإستعراضية ، بل عبر الثوابت الجامعة التي لا يتهرّب منها إلا المتواطئون أو الخائفون.

لم يتحدث المشنوق في تفاصيل ضرورة الإستمرار في المقاومة السياسية ، لكنه يتلاقى بطرحه مع جهودٍ كثيرة تبذلها شخصيات سيادية لتقديم مبادرة وطنية جامعة ، لعلها تكون تجسيداً لما تاق إليه اللبنانيون وهم يودعون بطريرك الإستقلال الثاني ويستذكرون مفتي الكرامة والسيادة.

أحمد الأيوبي

اخترنا لك