عقل العويط
سأفترض أنّ السلطة اللبنانيّة، منحت الناس حريّة التعبير عن نظرتهم إليها، وآرائهم ومواقفهم حيالها، بدون أن توعز إلى أجهزتها، خفيةً أو مواربةً أو علنًا، التنكيل بهم، والتضييق عليهم، والانتقام منهم، فماذا كان فعل هؤلاء الناس بهذه السلطة ورموزها؟
في رأيي المتواضع، كانوا جَرَموا (بمعنى قَطَعَ، جَزّ…) لحمها جَرْماً، ورموا عظامها، حيث (ولمَن) يمكن أن تُرمى عظامٌ. ليس عندي أيّ شكٍّ حيال هذا التصرّف “الطبيعيّ”. فالناس في غالبهم الأعمّ، الذين لا يستفيدون من مكرمات السلطة، ولا يصلهم فُتاتٌ من رشاواها وصفقاتها، يعيشون في ذلٍّ مهين. فلا بدّ، أن يتحيّنوا الفرص – إذا سنحت – للانقضاض على أهل الحكم وتلقينهم الدروس المناسبة.
كيف تُصنَع الفرص المناسبة للانقضاض على السلطة، وإلحاق الهزيمة بها؟
في الديموقراطيّات، يتمّ إسقاط الرؤساء والحكومات والمجالس بالتصويت والاقتراع، حيث تلتزم الأكثريّة والأقليّة تطبيق مواد الدستور والقانون، وتحترمان مبدأ تداول السلطة، فلا يُلجأ إلى “الانقلابات” الترهيبيّة، أو إلى سنّ قوانين انتخابٍ جائرة تحت وطأة الغلبة والاستكبار، ولا إلى الاستعانة بالغرائز والعصبيّات الإتنيّة والدينية وسواها (بالخارج مثلًا) للحؤول دون إنزال الهزيمة النكراء بالعهود والحكّام. في لبنان، يؤخذ بالمبدأ الديموقراطيّ ظاهرًا وشكلًا، في حين تُنحَر الديموقراطيّة واقعًا. الفجيعة، أن هذا يحدث الآن، فعلًا وواقعًا، في لبنان، على مرأى من الناس المفروضة عليهم الضرائب المميتة، والمسروقة حقوقهم وأموالهم التقاعديّة، الموجوعين، الفقراء، المرضى، العاطلين عن العمل، المدعوسين، من دون أن يفعل هؤلاء أيّ شيء لوقف هذه العربدة الجائرة.
السلطة عندنا هي جسمٌ “متماسك” موبوء، شأن النظام، على رغم التفكّكات الظاهرة في هذا الجسم. فهي تعرف كيف تُسرَق الأموال، ومتى، وبأيّ طرقٍ تُوَزَّع الحصص، ويتمّ تقاسم الصفقات والمراكز والمناصب. أما الناس فهم في غالبيّتهم لا يعرفون سوى الثرثرة العبثيّة الفارغة من المعنى والفاعلية. لماذا؟ لأنّهم في لحظات الحسم، يرتدّون إلى عصبيّاتهم، ويعيدون إنتاج السلطة الغاشمة نفسها. إنّهم باختصار: تابِعو حكّام وزعماء ومذاهب وطوائف، وليسوا شعبًا وليسوا مواطنين.
بدون شعب المواطنين، لا يمكن كسر الحكّام وإسقاطهم. بدون مواطنين، يستطيع أيٌّ كان، كمثل متسلّقٍ منتهزٍ قبيحٍ وموتورٍ يتحكّم بالحكم والحكومة، أن يفعل ما يريد. كما الآن.
في لحظةِ حريّةٍ لا لبس فيها، مصونةٍ بقوّة القانون والدستور، لو قُدِّر لشخصٍ عاديّ (مواطن طبعًا)، لعاملٍ، لموظّف، لأستاذٍ، لفقيرٍ، لجائعٍ، لكاتبٍ، لرسّامٍ، لفنّانٍ كاريكاتوريٍّ، لحكواتيٍّ، لهجّاءٍ، أن يحكي حكاية هذه السلطة، أن يروي أخبارها، أن يرسم لها وجهًا، أن يتصوّر لها شكلًا جسمانيًّا، أن يسخر منها، أن يهجوها، أو – لِمَ لا – أن ينتقم منها، فماذا كان ليفعل؟
أنا نفسي، في لحظةِ حريةٍ لا لبس فيها، مصونةٍ بقوّة القانون والدستور، كنتُ جَرَمْتُ لحم هذه السلطة جَرْمًا، ورميتُ عظمها حيث (ولمَن) يجب أن تُرمى العظام.
[email protected]