كانوا يكرهونكَ، وكانوا يحقدون عليكَ، لأنّكَ كنتَ جميلًا وخطيرًا.
جميلًا جدًّا وخطيرًا جدًّا، يا سمير.
فقد كنتَ تلمع، كما تلمع شمسُ أوّلِ حزيران فوق سهول الزيتون المبرعمة. وكانوا يكرهونكَ، ويبغضونكَ، لأنّكَ كنتَ تلمع كشمسٍ منذورةٍ للصيف.
فقد كنتَ تأخذ تلك الشمس بكلتا يديكَ، بقوّة الذكاء وجنون الحنين، كما يؤخذ زيتون تشرين، في آخر الصيف، إلى ذكاء المعصرة وجنون الرحى في الحنين.
ما كانوا يتحمّلون شيئًا من هذا كلّه، ولا صوّانًا يقدح الشرر، ليدلّ ضوءًا إلى موضع الليل، ولا كانوا يتحمّلون شمسًا تشرق فجرَ كلّ صباح، ولا شجرًا من النوع الذي ينضح زيتًا للقناديل.
كانوا يكرهون الحبر في الأصل، ثمّ صاروا يكرهونه أكثر من جرّائكَ، لأنّ حبركَ موجِعٌ ولئيم، يا سمير.
وكنتَ تبتسم وتضحك، وتبتسم وتضحك، لأنّكَ تعرف. وكانوا يكرهونكَ لأنّكَ تبتسم وتضحك، ولأنّكَ تعرف. لو تعرف، كم كانوا “يموتون” من جرّائكَ، وكم كانوا يُقتَلون قتلًا رائعًا، لأنّكَ كنتَ تبتسم وتضحك، ولأنّكَ كنتَ تعرف.
لقد فعلوا بكَ، واقعيًّا ومعنويّاً، ما لا يزالون يفعلونه في شعوبنا وفي بلداننا، وخصوصًا في هذه التي يُطلَق عليها تعارُفًا، اسم “بلاد الشام”.
أذكّركَ، الآن، بأنّه لم يبقَ لنا الكثير من الشمس، ولا الكثير من الزيتون. أقلّ بكثير، ممّا نحتاجه لنرى ونمشي ونستضيء.
أسألكَ، أيمكنكَ الآن، والحال هذه، أن تظلّ تبتسم وتضحك، ما دمتَ تعرف كلَّ ما نعرف، بل اكثر ربّما ممّا نعرف؟ من قدس فلسطين المحتلّة إلى دمشق، مرورًا ببيروت والنهرين والخليج وطهران، هل بقيتْ لنا شمسٌ أو حتّى أحجارُ صوّان، لنمشي في الليالي فوق الجبال، أو لنوقد نارًا من أجل أن تصطلي أوجاع السهول والثلوج والشتاء؟
وموتانا، وأحلامنا، وأولادنا، بماذا ندفئهم، ونغطّيهم؟ وأعمارنا، هل نجعلها تصطلي بذكرياتها؟
أكتب ماذا الآن، يا سمير؟ وأكتب لمَن، ولماذا؟ أمن أجل أن أقنع نفسي بأنّكَ بيننا، أو بأنّ موتانا يحلمون بالقيامة، أو بأنّ الناس يواصلون حياتهم، وبأنّ البلدان بألف خير؟
لا، أنتَ لم تعد موجودًا يا سمير، ولا أحد منّا أيضًا، ولا الناس، ولا البلاد. لقد أخمدوا ابتسامتكَ، والضحكة، وانتصروا عليكَ، وعلينا، وانتصروا على البلاد.
شيءٌ وحيدٌ لم يستطيعوه فيكَ.
أعيتْهم سبل القضاء على ذكائكَ العارف. فأنتَ ستظلّ تعرف جيّدًا أحوالنا من فلسطين، إلى سوريا، إلى العراق، إلى لبنان. وليس ثمّة حاجة لكي أسمّي لكَ بالاسم أرضنا الخراب كلّها من المحيط إلى الخليج.
في صبيحة مثل هذا اليوم، قبل 14 عامًا، وضعوا حدًّا لحياتكَ الجميلة. كلّ صباح، منذ 14 عامًا، بل منذ 14 جيلًا، هم يواصلون أعمالهم الناجحة والمزدهرة.
تحت أيديهم – لا بدّ من شلّ أيديهم – لن تشرق علينا شمسٌ بعد الآن. لن ينمو شجر زيتون. ولن ينضح زيتٌ ليُمسَح به وجعُ القناديل.
أمّا الحبر فقد مضى أوان الحبر من زمان، يا سمير. ولا بدّ من اجتراح الحبر، كما يُجترَح المستحيل.
كما يُجترَح حبرٌ، وكما يُجترَح مستحيلٌ، على غراركَ، جميلًا وخطيرًا، يا سمير!
عقل العويط