لقد سقط الطاغوت الحاكم في لبنان. أو هو، في أقلّ الاحتمالات، يترنّح الآن متهاويًا من علٍ إلى أسفل سافلين.
هذه حقيقةٌ لن يعتريها أيُّ التباسٍ أو غموضٍ بعد الآن، أيًّا تكن النتائج النهائيّة للعمليّة الانتخابيّة. وأيًا تكن التعويمات والتزويرات التي كانت لا تزال تجري على نارٍ حاميةٍ لدى كتابة هذا المقال، وفي أكثر من دائرةٍ انتخابيّة، للحؤول دون خسارة الأكثريّة الحاكمة حاليًّا، النصف زائدًا واحدًا من العدد الإجماليّ لأعضاء مجلس النوّاب.
لمَن يعزّيه أنْ يقول للناس، أو أنْ يُقال له، إنّ مسؤوليّة هذا السقوط المدوّي تقع فعلًا على العدوّ الصهيونيّ والإمبرياليّة الكونيّة والرجعيّة العربيّة، فليتعزَّ بهذا القول. المهمّ أنْ يجد ما يعزّيه، ليخفّف مصابه، ويطرّي عذابه، لئلّا تلتهمه كوابيس أرقه، أو يختنق بماء ريقه، أو يقضي في انفجارٍ دماغيّ. لا نريد لأحدٍ أنْ يتلوّى قهرًا، ولا أنْ ينتحر، أو أنْ يموت حزنًا، بسبب هذه النتائج. لا يُشتهى الموتُ لعدوٍّ، فكيف لمواطنٍ خصم… هذا إذا صحّ أنّه مواطن.
لمَن يريد أنْ يملأ فراغ الوقت، أقول له إنّ في مقدوره أنْ يقرأ الجرائد التي ستمتلئ صفحاتها بالمقالات التحليليّة التي تفكّك وقائع العمليّة الانتخابيّة، بنتائجها ودلالاتها الأكيدة والمحتملة. كما في مستطاعه أنْ يتسمّر أمام شاشات التلفزة والإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعيّ ومنصّات الفضاء الافتراضيّ، التي بدأت تغصّ من الأمس، وستظلّ تغصّ على مدى الأيّام والأسابيع المقبلة، بتعليقات الكتّاب والصحافيّين والمحلّلين السياسيّين والباحثين، الذين لن يبخلوا على الجمهور المهتمّ بآرائهم ونقاشاتهم وخلاصاتهم المتنوّعة، لكن المتفاوتة الأهميّة، وأحيانًا المضجرة، والغوغائيّة.
المسألة، مسألة الانتخابات، أصبحت في واقع الأمر والحال، وراءنا. ذلك أنّ المسمار دُقّ حقًّا في التابوت، ولا يمكن تغيير هذه الواقعة. هذا ما أنبأت به الوقائع، وما نضحت به أرقام الصناديق. لم يعد هناك أيّ مجالٍ لنقض هذه الحقيقة المجرّدة، ولا لنزع هذا المسمار من التابوت، وإنْ نُجِّحَ زورًا مرشّحٌ من هنا، وعُوِّمَ بالقوّة مرشّحٌ من هناك. وإذ لا يسع المرء تكذيب هذه الحقيقة، التي ستكون مرّةً على كثيرين، فإنّي شخصيًّا أربأ بنفسي عن اشتهاء المرارة القاتلة لأحدٍ من هؤلاء الكُثُر. هدّأ الله البال والهواجس والنفوس المرتاعة الملتاعة. لكنْ، ليس في اليد حيلة.
لمَن يعتقد أنّ في مقدوره مواصلة استنزاف لبنان واللبنانيّين بالتهديد والترهيب، لا بدّ من أنّه بات ملمًّا بما ستحمله المعطيات والاحتمالات الموضوعيّة المقبلة من مؤشّراتٍ جيوسياسيّةٍ تستدعي الاحتكام إلى نوعٍ من “الواقعيّة الوطنيّة”، لم يعد ثمّة مفرٌّ من الاحتكام إليه وإليها.
لمَن يعنيه مصير لبنان (ولا بدّ أنْ يكون يعنيه) من الفائزين الاعتراضيّين والثوريّين والتغييريّين والمستقلّين في العمليّة الانتخابيّة، أنصح له بأنْ يتخطّى على عجلةٍ من أمره، حلاوة اللحظة، فيلجأ إلى تشغيل العقل، إلى مولاه العقل، ليتبصّر في شأن هذا المصير. يمكنه بالطبع أنْ ينعم، ولكنْ إلى وقتٍ بسيطٍ للغاية، بـ”ثأرٍ” أخلاقيٍّ – معنويٍّ فحسب من وقاحة الطاغوت المتهاوي، على أنْ يهبّ بعد “السكرة”، إلى إعداد العدّة الرؤيويّة والدستوريّة والسياسيّة والمنهجيّة لمأسسة فوزه مع زملائه الاعتراضيّين والثوريّين والتغييريّين والمستقلّين في مجلس النوّاب، وتوسيع مروحة هذه المأسسة لتشمل كلّ النوّاب الذين يلتقي معهم حول المبادئ والمواضيع الحسّاسة والجوهريّة، كما حول مشاريع القوانين، والتعديلات، بما يفضي إلى تفعيل هذا الفوز وجعله عمليًّا في خدمة الجمهوريّة المهيضة الجناح، فيجبر خاطر الدولة المغتصبة الدستور والمنتهكة الحدود والمكسورة الخاطر، ويعيد استنهاض المؤسسات المهدَّمة، ولا سيّما إعادة الاعتبار إلى مجلس النوّاب بعدما فقد الكثير من مهابته وكرامته، خلال العقود الأخيرة.
هذه عتبةٌ (مأسسة الفوز) لا بدّ من اجتيازها اجتيازًا واعيًا، رائيًا، حكيمًا، عاقلًا، لفرض حقيقةٍ دستوريّةٍ ونيابيّةٍ وسياسيّةٍ ووطنيّةٍ (في الشارع أيضًا) ليس من سابقةٍ لها في تاريخ لبنان الحديث.
إلى هؤلاء النوّاب الفائزين أقول: في تصرّفكم عالمون وأساتذة ومجرّبون وحكماء راسخون ومخضرمون ورؤيويّون، أنقياء، يمكنهم أنْ يكونوا مستشاريكم المجانيّين. فإيّاكم أنْ لا تلجأوا إليهم.
أخصّص خاتمة هذا المقال، لتوجيه الإشادة بعشرات الألوف (بل بمئات الألوف) من المواطنين الناخبين والناشطين والمناضلين والجنود المجهولين الذين كسروا للمرّة الأولى في تاريخ لبنان الشعبيّ والدستوريّ والنيابيّ “تابو” الانتخابات، ففتحوا الباب أمام العمليّة الانتخابيّة لانتزاع نيابة نوّابٍ، لا من باب الطوائف والمذاهب والطائفيّات والعنصريّات والأحقاد والاحترابات، ولا من باب مزارع الطبقة السياسيّة التي تحكم لبنان تاريخيًّا، ولا من أيِّ بابٍ تقليديّ، ماليٍّ أو إقطاعيٍّ أو عائليٍّ متوارثٍ آخر. أمام هؤلاء أنحني، مقوّيًا عزائمهم، داعيًا إيّاهم – هم أيضًا – إلى مأسسة قوّتهم التغييريّة، وصناعة مؤسّساتهم وهيئاتهم السياسيّة والحزبيّة الحرّة السيّدة والمستقلّة، وإلى الالتفاف حول نوّابهم الجدد، ومراقبة أدائهم، مشورةً ونصحًا وتأييدًا وتصويبًا ونقدًا وبلورة رؤية.
لقد سقط الطاغوت الحاكم في لبنان. أو هو، في أقلّ الاحتمالات، يترنّح الآن متهاويًا من علٍ إلى أسفل سافلين.
الآن، ابتداءً من اليوم، تبدأ المعركة. يبدأ العمل الجدّيّ الدؤوب الطويل الأمد. لا بدّ من اجتراح البطولة والحكمة والرؤية والرؤيا، لأنّ الأفق السياسيّ سيكون مأزومًا للغاية، وخطيرًا، ومصيريًّا. وفي مثل هذا الامتحان الوجوديّ يُكرَم المرء أو يهان.
بقلم عقل العويط