بقلم عقل العويط
لمن دواعي الاعتزاز الوجوديّ والثقافيّ أنْ يقع اختيار الرئاسة الفرنسيّة على ريما عبد الملك للنهوض بحقيبة الثقافة (وأين؟!) في فرنسا، بما تعنيه الثقافة لفرنسا في مرايا ذاتها وشخصيّتها الثقافيّة، وبالنسبة إلى العالم كلّه.
ما يهمّني في هذا الاختيار، ليس التشاوف ولا الاستعراض ولا الاستغراق في “اللبنانويّة” السخيفة والمريضة، بل ما يستنهض الجانب الذي يعني لبنان، وخصوصًا في هذه اللحظة الحرجة من تاريخه السياسيّ، بما تنطوي عليه هذه اللحظة من تحدّياتٍ وانهياراتٍ بنيويّةٍ غير مسبوقة، وبما يجعل حياتنا ومعيشتنا ومصيرنا الوطنيّ تحت السكّين، تحت المقصلة.
والحال هذه، ليس من عجبٍ في أنْ تتولّى ريما عبد الملك وزارة الثقافة في فرنسا. العجب الحقيقيّ أنّنا هنا – في “دولة مفاعيل اتّفاق مار مخايل” – نتعجّب ويأخذنا الذهول المشوب بالافتخار والاعتداد والزهو، لأنّنا نرى إلى الأمور من منظورٍ لبنانيٍّ محلّيّ، تحت مجهر ما آلت إليه “السياسة” اللبنانيّة من انحطاط، ووفق معايير هذه “السياسة”، وفي ضوء “ثقافة السياسة” عندنا.
يا لهول ما هي عليه “السياسة” عندنا!
“السياسة” هناك غيرها “السياسة” هنا. ومعاييرها هناك غيرها معاييرها هنا. من الطبيعيّ إذًا، والحال هذه، أنْ يصل الاختلاف في مقاربة “ثقافة السياسة” بين الهناك والهنا إلى حدّ التناقض المثير للاستغراب و… العجب. من البديهيّ والمنطقيّ تاليًا، أنْ يصل الاختلاف في مفهوم ممارسة السلطة والحكم، إلى حدّ القطيعة أحيانًا، ولا سيّما من حيث مقاربة مسائل حسّاسة ودقيقة، من مثل اختيار النوّاب والوزراء، والاضطلاع بمسؤوليّات العمل في الشأن العامّ.
ها أهل السلطة، ها أهل الحكم، يقفون – يا للصفاقة المريرة – على قاب قوسين ربّما، من إعادة انتخاب رئيس المجلس نفسه، ومن إعادة توليد حكومةٍ (؟!) على غرار الحكومة التي دخلت في باب تصريف الأعمال، ومن التنطّح إلى مواجهة استحقاق انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة (؟!) بالمنطق نفسه، وبالصفاقة نفسها، وبالاستهتار نفسه، و… بالانتحار نفسه. كأنّ لا شيء في هذا الموت اللبنانيّ العميم يدعو إلى دقيقة تفكيرٍ واحدة (دقيقة واحدة فقط لا غير) أو إلى مساءلةٍ وإعادة نظرٍ في “السياسة”، وفي “ثقافة السياسة”، مقاربةً ومعيارًا ومفهومًا ومترتّباتٍ مصيريّةً على السواء.
أهتف من أعماق وجداني الوطنيّ صارخًا ومحذِّرًا من هذا الفحش “السياسيّ” الذي يستخفّ بكلّ خطرٍ داهمٍ، ولا سيّما أنّ الخطر الذي أومئ إليه ينذر باستدراج لبنان – في دولته ومؤسّساته الدستوريّة – إلى المأزق الأخير، والارتطام الأخير.
قبل أسبوعٍ من الآن، حصل في تاريخ لبنان السياسيّ الحديث ما لم يحصل مثله يومًا، بانتخاب ثلّةٍ من النوّاب الجدد، ليس لهم “أصولٌ” ولا “فروع” (تقريبًا) في هذه الطبقة السياسيّة البغيضة.
أنوّه بذلك التنويه الواجب، لكنْ من دون أنْ يستولي عليَّ الزهو فأطلق أحكامَ قيمةٍ ورديّةً على هذا الحدث، تفخيمًا، ومن دون أنْ أمعن – في المقابل – مع الممعنين الكارهين والمكروهين، تفخيخًا وتفخيتًا. جلّ ما أقوله إنّ هذا الحدث غير مسبوق في تاريخ لبنان السياسيّ الحديث. فلنعتبرْ به. ولنثمِّرْه ببعدِ نظرٍ وطنيّ، بعقلانيّةٍ ووعيٍ وصلابةٍ وشجاعة.
افهموني جيّدًا: لبنان يمثل الآن في اللحظة التي تُسابِق المأزق الأخير والارتطام الأخير.
إذا من “نصيحة” فخذوها من هذا “العبد الفقير”: ليس بإعادة انتخاب رئيس المجلس نفسه، وليس باستيلاد حكومةٍ مشابهة، وليس أيضًا وخصوصًا بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة وفق “السياسة” و”ثقافة السياسة” نفسها. والسلام.