بقلم عقل العويط
الأستاذ ملحم شاوول.
خسرنا الأستاذ. الدكتور. التنويريّ. الناقد. المتفحّص. المفكِّك. المستجلي. الباحث عن الإبرة، عن نقطة الذهب، في أكوام القشّ (الاجتماعيّ والسياسيّ) التي تملأ لبنان، وتكاد تزهق أنفاسه وتقضي عليه القضاء المبرم.
لا لبنان الثقافيّ يستحقّ هذه الخسارة، ولا أهل ملحم وعارفوه ومحيطه الأستاذيّ والأكاديميّ، ولا التفكّر في شجون الجامعة اللبنانيّة (وما آلت إليه من نهاياتٍ مأسويّةٍ مفجعة)، ولا الغوص على السوسويولوجيا مطلقًا، ولا سيّما على هذه السوسيولوجيا اللبنانيّة التي تقضّ أهل الانتباه العقلي، والتي هو منحها اجتهاد كيانه كلّه، تلافيف عقله وقلبه وعينيه وجسمه والروح، بلا كللٍ ولا يأسٍ، ومن دون أن يتوقّع أو ينتظر (أو يعنيه أنْ ينال) تقريظًا أو شهادةً من أحد.
الأساتذة المفكّرون البحّاثة الناذرون بصيرةَ أرواحهم، هذه قماشتُهُم. وقماشتُهُم أقدارُهُم النزيهة، لكن الشجاعة والصلبة. وأنتَ، ما أطيب قماشتكَ يا ملحم، وإنْ كانت قد خيطت بالدأب المُنهِك المُضني، وأحيانًا أجدني أسمّيه الدأب الجاحد. بل ربّما الجاحد في الغالب الأعمّ. ولا تعميم.
وأنتَ، يا ملحم، يا أخي ملحم، ولِمَ لا يا معلّم، أدركتَ بالعقل الحصيف، وبالعقل النزيه، ما ينبغي أنْ يُدرَك عن معنى الجامعة، ومعنى الأستذة، ومعنى الأكاديميا، ومعنى السوسيولوجيا، ومعنى علم الاجتماع، ومعنى التفكّر، ومعنى النقد، ومعنى التفكيك، و… معنى لبنان.
وأجدني “أحور وأدور” لأعود إلى مسألة لبنان عندك، ومسألة السوسيولوجيا الوطنيّة بما هي واقعٌ ووقائعُ ومعطياتٌ مشوبةٌ بأوجاعٍ وجروحٍ جمّة، ومشوبةً بما يجمع وبما يفرّق (وهذا كتابٌ لكَ)، وكيفيّات مقاربة التغيير مطلقًا، والمسألة المدنيّة العلمانيّة، والتبصّر فيها، واستيعاب تعقيداتها ومركّباتها، واحتضانها لتكون هذه السوسيولوجيا اللبنانيّة – هي بالذات – منصّة لا بدّ منها للمناداة بالتغيير السياسيّ والوطنيّ والدستوريّ إحقاقًا لدولة الحقّ والقانون والديموقراطيّة.
وها هنا يكمن دوركَ الخلّاق، ومساهماتكَ البحثيّة، ومداخلاتكَ حيث تدعو الحاجة، ارتجاءً للحلول المجدية وليس لاستعراض العضلات.
ويعنيني أنْ ألفت إلى معياريّتكَ في شأن الوطنيّة اللبنانيّة، جامعًا بين ما يتطلّبه علم السياسة الموضوعيّ، والنزاهة الروحيّة، والصلابة الفكريّة والثقافيّة، التي تجد في لبنان الدولة ولبنان الأرض مختبرَ أنسنةٍ واجتماعٍ وأفكارٍ وحرّيّاتٍ وحداثاتٍ، سيكون من المفجع فقدانه أو تخريبه (كما نشهد حاليًّا). وعلى أيدي مَن ؟!
لقد عرفتَ، يا ملحم، ما يجمع وما يفرّق (في الاجتماع اللبنانيّ)، وقدّمتَ ما يجب تقديمه في هذا الصدد، تسديدًا للخطى، وتصويبًا، ونقدًا، واقتراحًا، واستلهمتَ بعضًا من خريطة طريق، وهذا كلّه بفروسيّة الأساتذة الذين كم يحتاج لبنان إلى بصيرتهم النبيلة في خضمّ هذه الرعونات العمياء.
لقد خسرنا ملحم شاوول أيضًا (وكنا خسرنا قبل قليل صديقيه فارس ساسين وجبّور الدويهي). لا تجعلونا نخسر ما يجمع، و”نربح” ما يفرّق.