بقلم عقل العويط
يبحث صديقٌ لي عن مكانٍ لائقٍ بالموت.
أعجبتْهُ فكرة المكان اللائق هذه، وبعدها المأسويّ، فالتقطها من حوارٍ في فيلمٍ سينمائيّ، لم يعد يذكر عنوانه ولا اسم مخرجه ولا حتّى اسم البطل الذي كان يردّد هذه العبارة، بمرارةٍ حينًا، بخفّةٍ أحيانًا، وبابتسامةٍ ماكرةٍ في كلّ الأحيان. كلّ الأحيان؛ أي كلّما سنحتْ له الفرصة الدراميّة والسينمائيّة اللائقة في الفيلم، وهو جالسٌ وراء بارٍ، أو يتمشّى مع رفيقة عمره فوق أحد جسور المدينة الطافية فوق نهر.
قال لي إنّه بات يبحث عن هذا المكان اللائق، لأنّ لبنان لم يعد يصلح ليكون مقبرةً، ولا مأوًى لتابوت، ولا ملجأ لجثّةٍ تنتظر بفارغ الصبر أنْ يدقّ نفيرُ ساعتها بعدما استنفدت طاقاتها بحثًا عن الحياة، بحثًا عمّا ينقذ هذه الحياة من مهانتها البطيئة الراعبة.
والله، أنا استحيتُ من هذا الرجل.
استحيتُ من نفسي أمامه، لأنّي أعرف جبلته وطينته، فضلًا عن صلابته الروحيّة. لم أجرؤ أنْ أنظر في عينيه، ولا في تعابير وجهه ويديه، ولا في الوجع الذي كان يفوح منه ويتضوّع في أرجاء المكان. بالأحرى، تفاديتُ أنْ أفعل ذلك، لئلّا أجرحه أكثر ممّا هو مجروح، وأعطبه أكثر ممّا هو معطوبٌ بالقضيّة اللبنانيّة.
علمًا أنّه ليس يائسًا، ولا من أهل اليأس، بل على العكس مناضلٌ بشكيمةٍ تنافس عنادَ الصخور، ويعرف بحكمة الدهر، وبطبيعة الكينونات، أنّ الدهر لا يستقيم على حال، وأنّ الذين جعلوا لبنان مكانًا لا يليق بالموت ( ولا بالحياة ) لن يتأخّر بهم الوقت قبل أنْ يصطدموا بالجدار ( نفسه ) الذي اصطدم به مَن سبقهم من طغاةٍ ومنتفخين بأنفسهم واستكباريّين ومنتهزي فرص، و… يتمرّغوا بالتراب.
لماذا استحيتُ ؟
لأنّ هذا الرجل ليس حرفًا ناقصًا في اللغة والمجتمع، بل هو، في حقيقة أمره، مصدر “تعقيدٍ” نفسيٍّ وثقافيٍّ لي، لما يختزنه من مواهبَ خلّاقةٍ، وطاقاتٍ إيجابيّةٍ مذهلة، وكفاحاتٍ كبيرة، تتجدّد من تلقائها. فهو سنديانةٌ في وعر، وليس من الصنف الذي يلتوي. وإذا التوى لا ينكسر. وإذا انكسر لا يتيح لقلبه أنْ يعرف ماذا في قلبه. فكيف يتيح للآخرين !
هو لا يريد أنْ يموت كيفما كان و”من قريبو”. ولا أنْ يحيا كيفما كان و”من قريبو”. يريد أنْ يموت بكرامةٍ، في مكانٍ يليق بالموت، ويليق به الموت. لأنّ الموت عزّ. مثله مثل الحياة العزيزة.
هو قال لي إنّ الموت عزّ.
لهذا السبب يريد أنْ يبحث عن مكانٍ لائقٍ بالموت العزيز، بعدما فُرِّغ “مكانُ” لبنان من معناه، وأُفقِد الجدوى التي ينطوي عليها. قال لي أيضًا إنّه يأبى أنْ يحرف الموت عن معجزته القصوى باعتباره إمعانًا في الحياة. لا باعتباره إذلالًا وتركيعًا لها.
كنّا في بيروت.
فسألتُهُ أنْ يصطحبني في مشوارٍ إلى مسقطه، وكان يوم عطلة، فأصعدني معه، وقاد بنا السيّارة إلى “مكانٍ” ما ( لائقٍ دائمًا بالحياة وبالموت ) من نواحي جبل لبنان.
وفي الطريق إلى بيت الأهل، أفاض في الكلام عن الحرّيّة، عن ناس الحرّيّة، عن حركات الرفض والثورة والتغيير، عن عدم الاستكانة للموت، عن التمرّد، عن الكِبَر، عن الأرض، عن الحفر في الصخر، عن التاريخ، عن المستقبل، عن السوسيولوجيا، عن المدينة، عن الريف، عن بيروته، عن “المدرسة اللبنانيّة”، عن مختبر الحداثة، عن التخالطات والتمازجات المجتمعيّة، عن ثقافة السياسة، عن الطوائف، عن الهوّيّات، عن تلاقي الحضارات وتصادماتها، عن الفلسفة، عن الوجود والعدم، عن الشابّات والشبّان الذين يولدون في كلّ موتٍ، ويتحدّون الموت ( غير اللائق )، وعن استحالة انتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة.
لم ينسَ صديقي أنْ يتحدّث عن الفنّ. ولم ينسَ الأدب.
أمضينا النهار بطوله هناك، أُنصِتُ إليه. ولم نأتِ على ذكر الموضوع الذي كان يهجس به. ثمّ، في طريق العودة إلى بيروت، استوضحتُهُ سائلًا إيّاه أنْ يحدّثني عن هوّيّة المكان الذي يليق به الموت، ويليق بالموت، و… بالحياة. وأنْ يقترح عليَّ عنوانًا لمكانٍ ( آخر غير هذا العنوان وهذا المكان ) يليق بالموت والحياة.
بقي صديقي يقود بنا السيّارة مؤثرًا الصمتَ المتواضعَ النجيب، لائذًا به، ومبتسمًا باعتذارٍ خلّاق.