بقلم عقل العويط
الإصدار الذي يحمل العنوان الآتي، “رفيق علي أحمد الراوي – الممثّل على خشبة الحياة” (الهيئة العربيّة للمسرح)، وعلى غلافه صورة صديقي المشخّصاتيّ الحكواتيّ الأصيل والأنيق، أحببتُ أنْ أسمّيه “الكتاب”، تيمّنًا بالدستور. وهو هنا دستور حياة رفيق، طفولته، نشأته، تجربته، مسرحه، حياته كلّها، شخصًا لائقًا وفنّانًا مسرحيًّا، راويًا وممثّلًا، متعدّد الطاقات والمواهب والخبرات.
أكثر ما يعنيني في “كتابه” أنّه هو. بما ينبغي لعري النفس البشريّة أنْ تكون عليه، في مراياها الأكثر نفاذًا وشفافيّةً وصدقيّةً وصدقًا وخلقًا. لا تكلّف، ولا تصنّع، ولا افتعال، ولا رياء، ولا ادّعاء، ولا غطرسة، ولا تشاوف، ولا زغل. كالأرض. كالشجر. كالعشب. كالصخر. كالنبع. كالشمس. كالقمر. كالضوء. كالنهر. كالفلّاح. كالراعي. وإلى آخره.
وإذا كانت الكتب تُكتَب في العادة، وتُنشَر، مُغربَلةً، مُصفّاةً، و”مُراقَبة”، فـ”كتاب” رفيق علي أحمد غير معنيٍّ بما يشغل الكتّاب الأدباء النقّاد على هذا المستوى، إذ يترك لسجيّة الوقائع الحياتيّة والمسرحيّة أنْ تتسلطن، وأنْ تكون كما هي عليه، وهذه هي شهوتها القصوى، بل نقطة قوّتها الفريدة.
إذ ألفت إلى هذه “النقطة”، إلى هذه الناحية، يعنيني أنّي، ولا بدّ، مدركٌ ماهيّة رفيق علي أحمد، جوهره، ومتفاهمٌ مع الشخص، مع الراوي، مع الممثّل، مع حقيقته. ويعنيني أنّي أقبض على المفتاح- مفتاحه، على الحقيقة- حقيقته، على البديهة، على الطبيعة، على الفطرة، على الموهبة، على المغناطيس، على البوصلة، وعلى جملة ما يؤلّف هذا الكائن الذي يلتئم طرفاه ( الشخص والفنّان ) التئامًا هو ذروة اللقاء الهانئ بين العفويّة الأولى والنضج المتمرّس.
ويعنيني أنّي لا أتطلّب ( كما رفيق، على ما أرجّح ) أنْ أعثر في “الكتاب” هذا، على ما قد يضفي على كاتبه “هالاتٍ” ثقافيّةً منتفخةً وليست مستساغةً، لأنّها ستكون مُسقَطةً إسقاطًا، ولن تكون في كلّ حالٍ، لتزيد أهمّيّة هذا الفنّان، التي لا تحتاج ( ولا هو يحتاج ) إلى أيّ هالةٍ وشهادةٍ، أو رَوتشةٍ، أو تجميل.
رفيق فنّانٌ بكلّ كيانه، بحواسّه كلّها، بجسده، بجسمه، بروحه، بأحشائه، بصوته، بنبرات يديه، بالتماعات عينيه البارقة والموجوعة، بإيقاعاته، بهلوساته، بهذياناته، بأحلامه، بينابيعه، بظلاله، بطاقاته التي تستثير الخشبة والصالة والفضاء والأبطال والشخصيّات والكومبارس والستائر والكراسي والأدوات والأكسسورات والإضاءة والجمهور الشعبيّ العموميّ الراقي النخبويّ في سائر الوطن والمهجر، وهلمّ.
“الكتاب” هذا، هو دستور رفيق علي أحمد في مئتين وسبعين صفحة: القرية، المدينة، “الحكواتيّ”، فرقة “الممثّلون العرب”، “الحلبة”، “الجرس”، “المفتاح”، “زواريب”، مسرح منصور الرحباني، “حكم الرعيان”، “جبران والنبيّ”، “قطع وصل”، “جرصة”، “وحشة”، الراوي الممثّل، ملحق الصوَر، وسيرة ذاتيّة.
لا أكون أجازف إذا قلتُ إنّ الطريقة التي يروي بها رفيق علي أحمد سيرته هي جوهرة كتابه. هنا حيث لا مسافة بين الشخص والممثّل، هنا حيث الحكواتيّ الجوهريّ الحقيقيّ ماثلًا أمام مراياه، بالعفويّة التي تصنع مسرحًا خالصًا, مسرحًا، أكاد أقول، لا يحتاج إلى إخراج. فهو حكواتيّ – راوي حياته، ووجوده، وطفولته، وذكرياته، وعائلته، وبيته، وأرضه، وقريته، وطقوس ناسه، وعاداتهم، وتقاليدهم، ويوميّاتهم، ومعتقداتهم، وقيمهم، وإيماناتهم، وخرافاتهم. وهو ممثّلها، وهو مخرجها.
كيف أقول عن شاعر إنّه شاعرٌ بالفطرة، وعن فنّان إنّه فنّان بالفطرة؟ أقول الشيء نفسه عن رفيق علي أحمد. موهبة – جوهرة لا تحتاج إلى صقل، وإذا صُقِلتْ ازدادتْ بريقًا من داخل، وعمقًا من داخل. وفي مقدوري أنْ أسترسل في هذا الصدد والسياق، زاعمًا أنّ “نزول” رفيق إلى المدينة، إلى بيروت، ودخوله المعترك، وعالم الاختبار، والدعك، ثمّ انطلاقه الراسخ في عالم المسرح اللبنانيّ والعربيّ الأوسع، لم يزدني إلّا اقتناعًا بما وبمَن هو.
وبعد، لا بدّ من أنْ تكون لـ”الكتاب” هذا تتمّة. الكتب كلّها لكَ، يا رفيق، والتتمّات. والخشبات. سلامي إليك.