بقلم عقل العويط
المسألة، مسألة البلاد، مسألة لبنان، ليست شخصيّةً، ولا ذاتيّةً، ولا مادّيّةً، ولا نفعيّةً، ولا يُنظَر إليها من مكانٍ وزمانٍ عابرين، ولا من موضعٍ فئويٍّ، ولا في مجهر المنطق النسبيّ. هي أيضًا، ليست مسألة أكثريّةٍ وأقلّيّةٍ (وثلثٍ معطّلٍ)، ولا مسألة سلطةٍ ورئاسةٍ ومجلسٍ وحكومةٍ، أو مسألة نيابةٍ ووزارةٍ وحاكميّة، ومراكز نفوذٍ وقوى. لذا، تبطل كلّ مقاربةٍ لهذه المسألة الجوهريّة، إذا لم تكن بريئةً من كلّ نسبةٍ، وبلا قيدٍ وبلا شرط.
المسألةُ هي الآن مسألةُ 29 و23 (وهي أيضًا 8 و14)، على رغم كونها قد لا تبدو كذلك. في لحظةٍ ما، كهذه اللحظة، يجب أنْ لا يغرق المرء في فنجان (أو في كشتبانٍ مفخوت). علمًا أنّ بعضنا تأخذه الخفّة ليتمسكن ويتشاطر ويتناظف، وينأى بنفسه، وكأنّ العمل السياسيّ (البراغماتيّ) لا يتطلّب الواقعيّة والعقلانيّة والموضوعيّة، ولا يتطلّب وعي المواقف (الطفوليّة)، وعقد التحالفات التي تعزّز الجوهر، ولا تؤذيه.
المسألة هي مسألةُ انقضاضٍ على هذا الجوهر (على البلاد)، وتحايلٍ سافلٍ ورخيصٍ عليه (وعليها) وأحيانًا مسألة مراهقة سياسيّة، وأيضًا مسألة قصر نظر وغباء واستغباء.
إذا (أنا كمواطن، كمسؤول، كرئيس، كحاكم، كزعيم…،) لم أُحبِبكِ الآن، أيّتها البلاد، حبًّا عملانيًّا واقعيًّا وملموسًا ومحسوسًا ومنطقيًّا، لا نظريًّا وأفلاطونيًّا وإنشائيًّا ولفظيًّا، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، وبدون قيدٍ أو شرط، فمتى أكون أُحبّكِ؟!
إذا لم أُحبِبكِ الآن، في سقوطِكِ، في خرابِكِ، في يباس ثدييكِ، في فراغِ أهراءاتِكِ وخزائنكِ ومصارفكِ، في ارفضاض الناس والأصحاب والأخوة والأصدقاء والدول عنكِ، فمتى يجب أنْ أحبّكِ؟!
أقول الآن، وأعني في كلّ وقتٍ، ولا سيّما في الأوقات الصعبة. كهذه الأوقات الصعبة.
لكنْ، مَن يكون يحبّكِ في الضرّاء في الوجع في الفقر في الجوع في المرض في التهلكة، لا يُحسَب له حسابٌ في طهران، ولا في دمشق، ولا في الخليج، ولا في موسكو، ولا في بيجينغ، ولا في واشنطن. وسأقول بتأنيبٍ كبير: ولا أيضًا في باريس.
مَن يكون يحبّكِ بهذه الطريقة، أيّتها البلاد، لا يُحسَب لمعياره حسابٌ في بعبدا في ساحة النجمة في السرايا في عين التينة في المقارّ الحزبيّة والأمنيّة والماليّة في الأوكار وحيث تدعو الحاجة.
هنا (وهناك)، حيث تُعشَق صبابيط الزعماء وروائح أقدامهم، وحيث تُلحَس بل تؤكَل بنهمٍ بلذّةٍ بعبوديّةٍ، وحيث يُتعَبَّد للأحزاب للتيّارات للكتل (والتكتّلات!) النيابيّة والوزاريّة، وللمرشّحين إلى المنصب الأول والمنصب الثاني والمنصب الثالث وهلمّ، وإلى كلٍّ منصبٍ ممكنٍ ومحتمل، وحيث يُتقاتَل في سبيلهم وسبيلها، وتُسفَك من أجلهم وأجلها المهج والدماء والثروات والأحلام وابتسامات الأطفال، وحيث… يُنسى أنّكِ البلاد.
سحقًا!
في أوقاتٍ كهذه، لا يعود جائزًا أيّ ارتكاب، مهما كان نافلًا. كم يشعر المرء بالحاجة إلى إعلاء شأن الأولويّات التي تُقاس الأمور بمقاييسها (أو هكذا يجب). ففي غياب الأولويّات، ما أسهل أنْ يعلق المرء بالنوافل بالتفاصيل بالحرتقات بالأنانيّات بالصغائر.
أقول إنّ الخسّ فائضٌ للغاية. لا أقصد الخسّ الذي يُزرَع في الحقول ويُباع في الأسواق. أقصد الخسّ (ما العلاقة بين الخسّ والخسّة والخساسة؟!) الذي يستولي على الأدمغة والعقول والحسابات والأفكار والتصوّرات والأوهام والتخرّصات، ويُعمي سبل الوعي والحكمة والعقلنة والتعقّل، فلا يعود المرء قادرًا على التمييز بين الغثّ والسمين والثمين.
ناهيكَ بالخسّ الذي يفضي بعقل بصاحبه إلى البطر والجشع والفحش والسلبطة والبلطجة والاستكبار والمحو والإلغاء والاستيلاء والترهيب والتخويف والقتل والغشّ والكذب والنفاق والرياء والبيع والشراء و… الخيانة.