بقلم عقل العويط
مقدّمة لا بدّ منها : أنصح للمعارَضات على اختلاف انتماءاتها ومستوياتها الجذريّة والتغييريّة والإصلاحيّة والسياديّة والتقليديّة أن تذهب إلى الاستشارات الملزمة يوم الخميس المقبل وفي جعبتها اسمٌ واحدٌ لرئاسة الحكومة (مهما كان ذلك معقّدًا بل مستحيلًا) يحمل من الرؤية الاقتصاديّة الخلّاقة والنزاهة السياسيّة والصلابة الوطنيّة والأنفة الأخلاقيّة ما يجعله أهلًا لتولّي المنصب الخطير، ولو اصطدم تكليفه (وتأليفه) بجدارٍ مسدود.
وبعد، سيصل سعر صفيحة البنزين إلى 800 ألف ليرة إلى مليون إلى أكثر. مَن يدري، فقد يصل إلى مليونين إلى ثلاثة وهلمّ. كذا أقول (نسبيًّا وبالمنطق نفسه) عن فنجان القهوة عن رغيف الخبز عن الهواء عن الأمل عن السعادة (كم أصبح، يا ترى، سعر التابوت درجة 3؟) إلى آخره.
عندما تنفتح أشداق الهاوية، عندما لا يعود للهاوية قعر، لا يعود ثمّة أهمّيّةٌ فائضةٌ لـ”درجات” الهول التي يصل إليها الانحطاط، ولا للحجم الذي تتّخذه الكارثة. فلنترك لأدباء الخيال الافتراضيّ الجحيميّ، لمخرجي السينما الأبوكاليبتيّين، أنْ يتمادوا في تخييلات عبقريّاتهم، أنْ يتخطّوا كلّ مدًى، بحيث يصير هذا الخيال هو الواقع، واقع الحال، هنا والآن، في هذه الجمهوريّة اللبنانيّة المغبوطة بطغاتها، حكّامها، رؤسائها، قادة أحزابها وتيّاراتها، والمهلوِسة بهندسات بلطجيّيها، ومدارس نفاياتها السياسيّة والطائفيّة والميليشيويّة، وحثالاتها الكريهة.
الآن، لم يعد أحدٌ يسأل عن احتمال ملامسة عتبات العوز والحاجة والضيق والفقر والجوع والمرض. أصبحت تلك الحال (الملامسة) من زمنٍ آفلٍ، ربّما مضى إلى غير رجعة. لقد تخطّينا تلك العتبات بأشواط، وأحرزنا فيها قصب السبق العالميّ، وصرنا نقيم في الصالون، في صحن الدار، دار العدم.
ربّ سائلٍ عن مصير الاستشارات الحكوميّة الملزمة، عن الوزير الأوّل العتيد المزمع تكليفه رئاسة الحكومة، عن التعيينات الموعودة، عن آفاق معركة العدم الرئاسيّة وإلى آخره.
لمَن يسأل ويتكهّن أقول له إنّ المعنيّين (الجهنّميّين) يدركون تمامًا أنّهم باتوا (و… بتنا) في قلب دائرة العدم الضيّقة، وأنّهم يتقاتلون على هذا العدم، يتفاوضون لاقتسامه، لعقد الصفقات في شأنه. لكنّ هذا العدم لا ينتظر دعوةً أو مبادرةً من أحد. إنّه هو السبّاق الذي يوجّه الدعوات إلى السادة الموقّرين الأفاضل هؤلاء، ويعرض نفسه عليهم نفسه عاريًا (بالظلط، كما خلقته يا ربّ)، ويفتح لهم أبواب جحيمه، ومصارفه، وخزائنه (وآبار غازه وبتروله)، بالمجان، ويقول لهم تفضّلوا خذوني. وعهِّروني.
وتناوبوا عليَّ بالرضا بالقبول، ثمّ أعيدوا الكرّة، ولا تضجروا، ولا تكلّوا. وإذا كللتم، فلا تتردّدوا في استخدام المنشِّطات، إلى أنْ تضيقوا ذرعًا بي (أنا العدم)، ويقضي الله (؟!) كان مفعولًا، ولِمَ لا يقضي الوليّ الفقيه و/أو الشيطان الأكبر و/أو العدوّ الغاصب (وثمّة مَن يزعم أنّهم كلّهم واحدٌ أحدٌ ومعًا وفي آنٍ واحد).
في هذه الغمرة العدميّة، يسأل سائلٌ: ماذا بقي من معنى النائب، من معنى رئيس النوّاب، من معنى الوزير، من معنى رئيس الوزراء، من معنى الرئيس، من معنى الرئاسة، من معنى الدستور والقانون والدولة والجمهوريّة والكيان والوجود والمصير، وهلمّ؟
ثمّة مَن يجيب : بقي الكثير الكثير من احتياط العدم، من نبع العدم الذي لن ينشف ماؤه (الرقراق السلسبيل طبعًا)، ولن ينتهي من كونه عدمًا مُنجِبًا للعدم.
أقول لهؤلاء السادة الأفاضل جميعهم: إيّاكم أنْ تضجروا، أو أنْ تعيدوا النظر في ما أنتم تسعون إليه، وتكابدون من أجل إنجازه. طريقُ العدم طويلٌ طويلٌ، بل سحيقٌ سحيقٌ، وقعره ليس له من قعر. فتدثّروا بالتخييل، تدثّروا بالتوحّش، بل تدثّروا بما أوتيتم من منشِّطات (وخيانات)، لأنّ ربحكم سيكون غفيرًا، وعدمكم سيكون عميمًا.
على هامش هذا العدم النقيّ، ملاحظة إلى النوّاب الجدد، وخصوصًا منهم أصدقائي نوّاب 17 تشرين الذين تُنصَب لهم الكمائن والفخاخ والمكائد من الأبعدين والأقربين ومن كلّ حدبٍ وصوب، لطعج أعوادهم الطريّة، وتيئيسهم وترهيبهم وتدجينهم واستدراجهم، بقصد وضعهم تحت عصا الطاعة: نيابتكم (على ما في الانتخابات وقانونها من عيوبٍ جسيمة) حصرمٌ في عيونهم، وشوكةٌ في زلاعيمهم، فلا تخافوا. لكنْ، “كرمالي وكرمال الله”، رجاءً لا تضيّعوا الوقت حول جنس الملائكة. ثمّ، ألف رجاءٍ ورجاء أنْ تتريّثوا وتفكِّروا و”تعدّوا للعشرة” قبل الإدلاء بالتصريحات والمواقف المبسّطة والضاحكة والواثقة، و/أو استشيروا أحدًا في شأنها.
… أمّا دار العدم، وعلى سيرة الإقامة في صحنها، والاستقاء من بوز (فم) بئرها، بقصد التفاوض والتقاسم، أو انتزاعِ مطلبٍ ومنصب، فضلًا عن التكليف والتأليف، فثمّة مَن يقول: مرحبا استشارات ملزمة. مرحبا تكليف. مرحبا نوّاب. مرحبا وزراء. مرحبا مجلس نوّاب. مرحبا مجلس وزراء. ومرحبا رؤساء. وربّما – ربّما – مرحبا دستور وجمهوريّة. والآتي قريب.