بماذا نصف الشاعر سوى أنّه شاعرٌ. ونقطة على السطر؟ من بين كلّ الصفات والأوصاف التي أُطلِقت وستُطلَق على حسن عبدالله، وهي كلّها صحيحةٌ ومستحقّة، وتليق به بشكلٍ ممتاز، صفةُ الشاعر الشاعر، خلوًا من كلٍّ نعتٍ أو تشبيهٍ أو تبجيل. كأنْ تعرّفَ النبعَ بذاته، فتقول باختصارٍ بليغ: إنّه نبعٌ وحسب. ماذا يمكنكَ أنْ تقولَ فيه أكثر؟ كلّ ما هو أكثر، قليلٌ قليل. كأنْ تقول إنّه نقيٌّ، صافٍ، كريمٌ، فوّارٌ، مدرارٌ، باردٌ، شافٍ، سلسبيلٌ، وإلى آخره.
أليست هذه جزئيّات الجوهر الذي هو نبعٌ (نبع الدردارة مثلًا)؟ والذي هو شعر؟!
حسن عبدالله هو شاعرٌ شاعرٌ، وإنْ لم يتقصّد يومًا أنْ يحتلّ الواجهةَ، واجهةَ المشهد، وإنْ أيضًا لم يتقصّد أنْ يحتلّ الصدارةَ، صدارةَ الإعلام والذيوع والشهرة والطبل والزمر.
من فرط كونه شاعرًا، امّحى حسن عبدالله في الشعر، في ضبابه، في مائه، في ترابه، في غاباته، في عصافيره، في فضائه، فصار هو شعرًا.
من فرط كونه انسانًا، امّحى حسن عبدالله في الأنسنة، فصار هو الأنسنة. صار طفولة الأنسنة في مهدها النقيّ الذي لا يوازيه صفاءً إلّا صفاء الأمومة، وكلاهما واحد.
كأنْ تقول عن النسيم في أوقات القيظ، في أوقات الصحراء والحشرجة، إنّه أوكسيجينٌ للرئتين الغريقتين في القحط في الاختناق.
كأنْ تقول عن الرغيف في أوقات الجوع، إنّه شبعٌ، ووليمة.
كأنْ تقول عن الكريم في أوقات الضيق، في أوقات الذلّ، إنّه كرْمٌ على درب، وإنه كمَن لا تعرف يمناه ماذا تصنع يسراه.
هذا حسن عبدالله. وهذا شعره، وهو نبعٌ، ونسيمٌ، ورغيفٌ، وكرمٌ على درب، وطفولةٌ، وأمومة.
هل من شاعرٍ شاعرٍ أكثر من الطفل؟ حسن عبدالله كان هذا الطفل. وهل من غرابةٍ في أنْ يُسمّى حسن عبدالله (لا أغفر لنفسي أنّي لم أوطّد علاقتي الشخصيّة به، ولم أقل له يومًا كم أحبّ شعره، وكم أحترم مكانته)، هل من غرابةٍ في أنْ يسمّى الشاعرَ الطفل، وشاعرَ الطفولة، وحكّاءَها، وراويها، وراعيها، وكاتبَ قصصها وقصائدها؟
شعرُهٌ الذي نشره وجاد به علينا، وغنّى بعضه من غنّاه، هو بعضٌ من شعريّته الغامرة الفذّة الموهوبة اللمّاحة اللطيفة الطيّبة الذكيّة الفوّاحة الصادقة الليّنة الوديعة الحنونة العميقة الآسرة، التي كان ينبغي لحسن عبدالله الشاعر أنْ “يرعاها” (بلا تكاسل) فيفتح أبوابها وسياجاتها، ويلكز صهيل خيولها لتنطلق في السهول، في الأودية، في براري الكلمات، وفي حياتنا المريضة على السواء.
كان ينبغي لي، يا حسن، يا أخي حسن، أنْ أقول لكَ هذا كلّه، وبتوسّعٍ محكم، وأنتَ هنا، بيننا. كان ذلك خطأ جسيمًا. فاغفر لي يا حسن.