بقلم محمد الجنون
قد يكونُ رئيس الحزب “التقدّمي الإشتراكي” وليد جنبلاط من أكثر المُعارضين لنهجِ “حزب الله” وارتباطاته بالخارج وتحديداً بإيران، إلّا أنه في المُقابل، يعدّ من أكثر الشخصيات التي تديرُ دفّة “الخصومة” مع الحزب وفق القاعدة التالية: “لا عداء بصورة مُطلقة ولكن لا خصومة تؤدّي إلى عداء”.
هكذا يتصرّف جنبلاط ويديرُ علاقته مع “حزب الله”، وما يكشفه المسار الأخير للمواقف الصادرة عن زعيم “الإشتراكي”، هو أنّ هناك “مُهادنة” ضمنيّة في الخطاب، حتى وإن تضمّنت بعض التغريدات أو التصريحات رسائلَ على “موجةِ الخصومة السياسيّة” الاعتياديّة.
مؤخراً، أطلق جنبلاط موقفاً جديداً مرتبطاً بـ”حزب الله” يشيرُ إلى أنّ “قرار السلم في لبنان هو بيدِ الأخير وبيد إيران”، مؤكداً على “ضرورة التوصل إلى وضع خطّة دفاعية تنصّ على وضع سلاح الحزب تحت إمرة الدولة”.
الكلامُ الذي يقوله جنبلاط في هذا الصّدد ليس جديداً، بل هو قديمٌ وقيلَ في الكثير من المناسبات، لا وبل كان عنواناً عريضاً لمختلف الشعارات السياسية والانتخابيّة. فبالنسبة للأطراف المقرّبة من “حزب الله”، الكلامُ هذا سياسيّ ويحتمل النقاش، لكن ما يبرز بشكل كبير هو أن جنبلاط لم يذهب بعيداً نحو تكريس مواقف عالية النبرة ضدّ الحزب وسلاحه.. فما القصّة وراء ذلك؟
على أساس نغمة “الهدوء” التي دعا إليها قبل أسبوعين بعد آخر لقاء له مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، أيقن جنبلاط أنّ الأوضاع لا تحتملُ صداماً في الوقت الحالي، باعتبارِ أن هناكَ استحقاقاتٍ تحتاجُ إلى درايةٍ ودراسة معمّقة، في حين أنّ الإنجرار وراء ردّات الفعل غير المضبوطة، ستؤدي إلى احتدام الصراع السياسي أكثر فأكثر مع “حزب الله” وحلفائه.
وفي حال حصول ذلك السيناريو غير المضبوط، فإنّ مصلحة جنبلاط ستنتفي تماماً في الحفاظ على دوره الوسطي، كما أنه سيكونُ قد أقصى نفسه عن نطاق التسويات التي تلوحُ في أفق المنطقة العربية، باعتبار أن واشنطن أرادت هذا الاتجاه الذي أعرب عنه صراحة الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته الأخيرة إلى منطقة الشرق الأوسط قبل أيام.
إذاً، بناء لاعتبارات “الوسطية” وعدم الإبتعاد عن منطق التسويات، قرّر جنبلاط أن يفرض نفسه مهادناً في الوقت الصعب، مُستبعداً ملفات تفجيرية قد لا يقبلُ بها “حزب الله” أيضاً، مستثنياً نفسه أيضاً من الدّعوات إلى المواجهة، إذ أنه سيجري تصويره على أنه مُهدّد للسلم الأهلي، وهذه ورقة ساقطة وخاسرة حالياً.
كذلك، قد يرى جنبلاط أن الأولوية اليوم للشعارات لا ترتبطُ بسلاح “حزب الله”، كما أن زعيم “الإشتراكي” يتيقن تماماً أن فتح هذا الملف لا يُحلُّ داخلياً ولا يمكن أن يكونَ حاضراً للنقاش طالما أن هناك قضيةً طاغية على المشهد ترتبطُ بحقوق لبنان من النفط والغاز.
وإنطلاقاً من هذا الأمر، ما يظهرُ هو أنّ جنبلاط قرّر عدم الدخول في أي “مناوشة” مع “حزب الله” بشأن سلاحه، إذ أن الظروف حالياً غير مؤاتية لذلك، ومن الممكن أن يطرح جنبلاط مواقف داعمة للحزب في حال حصلت مواجهة فعليّة بين الأخير والعدو الإسرائيلي بشأن أحقيّة استخراج النفط والغاز من البحر المتوسط.
أما ما لا يُمكن نكرانه أيضاً هو أنّ جنبلاط بدا في مكانٍ بعيدٍ كل البعدِ عن “خصوم حزب الله” الذين يستشرسون في مواقفهم ضدّ الأخير. فمن جهة، ما يظهر هو أنّ التكامل مع “القوات اللبنانية” قد تراجع بشكل واضح، والتنافر سيزداد أكثر عندما لا يلتقي “الإشتراكي” مع “القوات” بشكل كامل في ملف انتخابات رئاسة الجمهورية.
كذلك، فإنّ اقتراب جنبلاط من الجهات المناوئة للحزب لا يظهرُ بشكل كبير، والدلالة على ذلك هو أنّ الأول لم يتحالف مؤخراً مع أي جبهةٍ تفتحُ نيرانها على “حزب الله” سواء على الصعيد البرلماني أو السياسي.
مع هذا، فإنّ رهان جنبلاط على عدم “استعداء حزب الله” أفاده كثيراً من ناحية أساسية وهي الحفاظ على السّلم الأهلي بعيداً عن أي تخبّطات. فمن هذا الأساس، لا يرغب جنبلاط بأن يكون شرارةً لمواجهة ضد “حزب الله” مثلما حصل في احداث الطيونة قبل أشهر.
حينها، كانت مواقف جنبلاط معروفة في التعاطف والتكامل مع حركة “أمل” التي وجدت نفسها مستهدفة خلال أحداث الطيونة، وهو أمرٌ مفروغ منه تماماً لأن جنبلاط لا يتنازل عن تحالفه مع برّي مهما كلّف الثمن.
ووسط كل هذه المشهدية، كان جنبلاط مشدداً على أهمية عدم حصول أيّ تقسيمٍ في الداخل، وهو أمرٌ يلاقي به “حزب الله” باعتبار أن التقسيم يعني حرباً جديدة وانكساراً لهيبة الدولة، وبالتالي توسعاً أكبرَ لنفوذ الحزب على حساب الآخرين كونه قوّة عسكرية ومالية كبيرة، وهذا ما لا يقبل به جنبلاط ولا يتحمّله على الصعيدين الوطني والدّرزي.
في خلاصة الأمر، يستوجبُ دائماً قراءة تحرّكات جنبلاط السياسية إذ أنها تكشفُ وبقوّة المسار الذي تسلكه البلاد، وتُظهر جملة من الآفاق التي تنتظرها. وإلى حينِ جلاء نتيجة مختلف الملفات، فإنّ رهان جنبلاط اليوم يكمن على عدم إنهاء خصومهِ لأن استمراريته في الحكم مرهونة ببقاء الآخرين وعدم إلغاء أحد.