الخروج من المأزق بين الصعوبة والاستحالة

بقلم زكي طه

مع تصاعد التحذيرات الدولية لقوى الحكم والسلطة وتحميلهم المسؤولية عن احوال البلد المشرعة على خطر الانفجار الكبير، يشهد لبنان موسماً جديداً من تشابك الاستحقاقات الدستورية، مع الاشتباكات السياسية حول مختلف القضايا المتفجرة، والملفات المتنازع عليها بين أهل الحكم وقوى السلطة من كل الاتجاهات. ولأن القضايا تتعلق بهوية البلد وموقعه ونظامه السياسي وانقساماته الاهلية، والملفات تبدأ من الصلاحيات والاصلاحات إلى مضاعفات الانهيار ولا تنتهي مع ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الاسرائيلي، يتجدد طرح الأسئلة حول مصير لبنان.

وما يزيد من خطورة الوضع وصعوبة الأسئلة، أن لبنان يتشاركها راهناً مع العديد من الكيانات العربية المجاورة التي تنتظر نهاية الحروب المدمرة التي تعصف بها، وتبقيها مرتهنة لمصالح المحاور المتحاربة بشعوبها لتفكيك مجتمعاتها واخضاعها لشبكات سيطرتها ونهب مواردها. وهي الحروب التي تشارك فيها الولايات المتحدة الاميركية، كما تتولى ادارة التدخلات الدولية والإقليمية فيها.

تستند قوى السلطة إلى إشكالية الانقسام الأهلي التي تشكل أساس نظام المحاصصة الطائفية. والتي تستمد منها مختلف مكونات الطبقة السياسية الحاكمة مبررات وجودها وأدوارها ومنطلقات سياساتها وممارساتها. والانقسام هو أحد الاسباب الدائمة لإنتاج أزمات البلد وإنفجارها، والعائق الرئيسي امام تكريس استقلاله، والمعبر الثابت المفتوح على التدخلات الخارجية. إضافة إلى كونه القيد المانع لحق اللبنانيين في أن يصبحوا شعباً له هوية وطنية وحياة مشتركة، والحاجز دون حقهم في أن يكون لهم نظام قابل للتطور الديمقراطي وللانفتاح على محيطه العربي والدولي.

وبما أن الانقسام الأهلي يكبل حاضر اللبنانيين ويأسر مستقبلهم، فإن السؤال الصعب المترتب عليه يتعلق بكيفية خلاصهم منه. لأن وحدتهم مرتهنة لشرط التحرر من التدخلات الخارجية، ومحاولة تحقيقه تقع في باب المستحيل، باعتبارها أقصر الطرق لتجدد الاقتتال في ما بينهم، نظراً لانقساماتهم حول الهوية والنظام وعلاقات لبنان بمحيطه وشبكات المصالح والمستقبل والسلاح. أما محاولات صياغة وتوليد مسار وحدة لبنانية مجتمعية متنامية حول حياتهم المشتركة طريقاً للخلاص من التدخلات الخارجية، فقد لازمتها الانتكاسات والارتدادات، ما جعلها أمراً صعباً جداً.

ولذلك ومع كل أزمة، يتجدد لدى اللبنانيين تحدي البحث في المداخل الأجدى لتحشيد قواهم في مسار تراكمي نحو الوحدة في ظل انقسامات الداخل ومصالح الخارج. والتحدي الراهن يكتسب أهمية استثنائية نظراً لطبيعة المخاطر التي تهدد الكيان. ما يتطلب عدم التهوين من خطورة الاشتباك المفتوح بين قوى السلطة القائمة من مواقعها الطائفية المتشابكة مع العوامل الخارجية، والمشرعة على الفوضى الشاملة وخطر تجدد الحروب الأهلية، تحت رايات السيادة والاستقلال والمقاومة والتحرير، وسط اجترار شعارات الاصلاح والإنماء والمقاومة والتغيير والمستقبل، التي لم ولن تأت باستقلال أو تبني وطناً وتحميه.

وكي لا يستمر اللبنانيون أسرى تكرار المحاولة بين خيارين، هما الصعب جداً والمستحيل. فإن الأمر يستدعي بحثاً جاداً في إمكانية وكيفية الوصول إلى حق غالبية الشعب اللبناني في الانتساب إلى كيانه، واختيار طبيعة نظامه وأفق تطوره، على نحو يقطع الطريق على أخطار تكرار التجارب الفاشلة والمغامرات العقيمة والانتحارية.

وبما إن الطبقة السياسية الحاكمة تعرف جيداً أهمية استمرار الانقسام الأهلي وإعادة انتاجه، باعتباره أهم مصادر قوتها، والركيزة الأساسية لنظامها ومستند وجودها، وضمانة استمرار سلطتها وأدوارها. فإنها تتقن جيداً الاستثمار فيه وتجيد استعمال جميع ما تمتلكه في ترسانتها من أسلحة لتزخيمه وفق مصالحها، أو للتهدئة عندما تدعو الحاجة، هذا عدا جهوزيتها الدائمة لمواجهة المعارضة ومحاصرتها عبر استغلال نقاط ضعفها، وقمع قواها بشتى الوسائل الناعمة والخشنة عند الضرورة.

بينما يكمن مأزق المعارضة الراهن في استهانتها بالانقسام الأهلي الذي يوفر ركائز وفرص لتدخلات الخارج في ساحتها. والذي يُمكّن قوى السلطة من تفخيخ صفوفها، التي تفتقد للحصانة والمناعة نظراً لما هي عليه من تفكك وشرذمة. أما هامشية قوى المعارضة ومجموعاتها التي تشكل مصدر أزمتها، فهي نتاج ادمان غالبيتها استسهال التحركات الفولكلورية لتغطية تهربها من موجبات بناء قواها المجتمعية وخوض معارك الدفاع عن المصالح المشتركة لغالبية اللبنانيين، ما يشكل الشرط الرئيس لتفعيل دورها.

إن المقاربة الجادة للانقسام الأهلي هي نقاش في المستقبل، وليس في الماضي. وهي شرط أساسي للخروج من المأزق الذي يواجهه غالبية اللبنانيين. وهنا تبرز الحاجة الملحة والضرورية أمام قوى المعارضة ومجموعاتها لفهم إشكالية الانقسام، باعتباره مدخلاً لمعالجة مصدر الخلل الداخلي ومحاصرته. وهذا يستدعي مغادرة الخفة في التعامل مع تاريخ البلد، وتصفية الحساب مع إدعاءات عدم وجود انقسامات وصراعات وحروب أهلية لبنانية، والاستمرار في تفسيرها على أنها مؤامرات خارجية، وحروب الآخرين في لبنان. وهذا يتطلب وضع حد لهروب اللبنانيين من مسؤولياتهم، والتغطية على ما صنعت أيديهم، وما ارتكبوا من أخطاء وخطايا بحق بلدهم وانفسهم. إن الاستمرار يعادل استخفافاً كاملاً بمستقبلهم وبمصير الوطن، وتجديداً لإقامتهم عند الحد الفاصل بين الوطنية وعدم الوطنية والخيانة، والإختلاف في تعريف الأحداث والحوادث والحروب المتكررة.

وإذا كانت قوى السلطة والحكم ليست بوارد تحمّل المسؤولية عن أعمالها، لأن سياساتها وأدائها حول مصالحها الفئوية والطائفية هي التي تبرر وجودها. ما يجعلها تشكل الوجه الآخر والمكمل لمصالح الدول المتدخلة التي تتلاعب بالكيان، وسط اختلاف وسائل قياس الصديق والخصم أو العدو. فإن مسؤولية البحث عن سبل الخروج من المأزق اللبناني وشروطه الداخلية والخارجية، تقع على عاتق قوى المعارضة. والبحث على هذا الصعيد ليس نظرياً، بقدر ما هو بحث يتعلق بمدى أهلية وقابلية البنية اللبنانية وقواها المجتمعية كافة على الاضطلاع بموجبات الإنقاذ، انطلاقاً من المصلحة الوطنية ومن أجل بقاء البلد كياناً وطنياً موحداً وقائماً بذاته، يستحق عدم التفريط به والاستخفاف بأهمية وجوده. ما يعني أنه بحث يتعلق بما يحتاجه البلد راهناً، وفي حيثيات ومبررات وأهمية وجود وبناء معارضة وفي طبيعة تكوينها ودورها وبرنامجها.

إن دروس التجارب السابقة هي المرشد ومصدر الحصانة لأي عمل انقاذي، يستهدف قطع الطريق على المغامرات الانتحارية، التي تعيد انتاج الانقسام والحروب الاهلية بوجهيها الداخلي والخارجي. لسنا بحاجة لاستحضار التاريخ الذي ينطوي على أوضح الأدلة. ولا في تعداد التسويات المؤقتة التي قررها الخارج وقبل بها اللبنانيين جراء عجزهم عن انتاجها، والتي انفجرت مع أول اختلال في موازين القوى التي رافقت ولادتها داخلياً وخارجياً.

إن الهروب المتمادي من بذل الجهد المضني والمطلوب للبحث في سبل الخروج من المأزق وتجاوز دائرة الأخطار الزاحفة، كان ولم يزل أقصر الطرق للبقاء في دائرة الإنقسامات واعادة انتاج إشكالياتها العسيرة التي نشأ عليها الكيان قبل مائة عام في سياق تجزئة عربية عامة، وفق قواعد الفرز والضم والالحاق. وهي الانقسامات التي أسست لتراتبية طوائفية ومناطقية، مثّلها نظام المحاصصة، الذي أنتج غلبة أهلية ـ طائفية، ولم يقم سلماً أو يؤمن استقراراً، كما لم يحقق سيادة واستقلال.

إن الجهد المطلوب ليس إعداد نص، بقدر ما هو انخراط في مسار تراكمي من التفاعل المشترك والسعي لبناء حركة معارضة ديمقراطية تعددية متنامية من أجل بناء دولة ووطن. حركة تعمل على امتلاك قدرة أكبر في الضغط عبر تشكيل وتنظيم وسائل وأطر التواصل مع الفئات الاجتماعية المتضررة، لإشراكها في الدفاع عن حقوقها المستباحة، والنضال في سبيل مطالبها المشروعة، والضغط لتعديل سياسات الاستباحة لها والاستهانة بها. وهذا يتطلب المبادرة والخروج من دائرة المراوحة والهامشية واختزال المجتمع وترداد الشعارات والبرامج الفوقية وتكرار التحركات الجزئية التي ثبت خواؤها، ومعها القيادات التي ترى نفسها البديل الجاهز عن قوى النظام المأزومة.

وبما أن الكيانات والاوطان والدول لا تتأسس على الخرافات، ولا تحصنها المغامرات الانتحارية، وبما أن وجودها واستمرارها قائم على تغليب عوامل ومصالح مشتركة بين مكوناتها، مهما تعددت اختلافاتهم، فإن إنقاذ لبنان وبقائه، يتطلب بذل الجهد والبناء على ما أكده اللبنانيون في انتفاضتهم المجيدة من وحدة مصالح واستعداد للنضال ومشاركة في الميدان دفاعاً عن حقوقهم، وما اثبتته الانتخابات النيابية الأخيرة من إمكانيات لاحداث اختراقات في بُنى النظام والطبقة السياسية المتسلطة على البلد بقوة الانقسامات الطائفية. وهو المسار الذي في سياقه تتوحد القوى وتتعلم من الماضي وتحاصر الانقسام الاهلي وقواه وتواجه الواقع الصعب جداً بجدية، وتنتج رؤية للمستقبل بكل ما يحتشد فيها من طموحات واحلام وأمال تستحق النضال من أجلها.

اخترنا لك