بقلم د. حسن علي يونس – كاتب وباحث في الفلسفة السياسية
سنتان عبرتا فوق جريمة الإبادة في تفجير العاصمة من خلال مرفأ بيروت عبر معها ما يزيد على مايتي إنسان بريء إلى الموت بالإضافة إلى سبعة آلاف جريح ومعوّق. جريمة وقحة أُريد بها أن تعمّق انقسامات اللبنانيين وتديم صراعاتهم العبثية لصالح أهداف وغايات ومصالح فئوية وشخصية ومطامح مرَضية.
لكن شاءت المصادفة أن تكون صليباً يفتدي كل واحد من هؤلاء الضحايا بدمه شعب لبنان المقهور. كانوا في موتهم أقوى من كل النعرات الفئوية المتخلّفة وأنقى من كل التحريض على الكراهية والتجهيل. لم يمت أيّ منهم في سبيل الدفاع عن عِقَد الزعيم، ولم يتجنّدوا كـ ميليشيا لإشباع رغبات مرَضية لقادة لا يجيدون سوى المراهنات وألعاب المقامرة بمصير شعب مسالم مقهور. ماتوا لبنانيين أصيلين.
نتحدّث عن ضحايانا بصيغة الجمع، لكنّنا نعلم أنّ كل فرد منهم هو إنسان غير قابل للاختزال أو الاستبدال. ليسوا حشداً غوغائيا، بل ضحايا إبادة غيّبتهم وشطبت حضورهم من سجلاتها. مرّة جديدة كان غيابهم أكثر حضوراً من وجود جلاديهم الشاحب. البطولة ليست في القهر والظلم والعدوان.
البطولة الحقيقية في التواضع والأخلاق والفضائل التي حُرِم منها المتسلطون على أقدارنا، الذين يريدون لنا أن نتوهّم فيهم العملقة والشموخ والسمو، ليخففوا عن أنفسهم مشاعر الدونية والتقزّم. ضحايانا خلدوا حضورهم واحتقارهم لمفاهيم البطولة الخرقاء المبنية على العدوان والإجرام والتسلط. إنّ كل واحد منهم هو مشروع حياة متجددة نابضة بالمحبّة والأمل والعنفوان والكرامة الإنسانية.
كل واحد منهم ينتمي إلى أسرة، وله أهل وأصدقاء وأقارب وأحبّة وجيران يحبهم ويحبونه ويهتمون لأمره ويتعلقون به وهو جزء من وجودهم مثلما هم جزء من وجوده.
كل واحد منهم لديه أبناء ينتظرونه ليخوض معهم غمار كفاح من أجل حياة سعيدة ومستقبل مشرق، أو لديه أهل يعوّلون عليه في إعانتهم على تأمين دواء عزّ في بلاد لها صفحات مشرقة وخالدة في سجل الحضارة الإنسانية ماضيا وحاضراً، أو هو/ هي بصدد تكوين أسرة وإنجاب الأبناء.
كانوا يضجّون بالحياة والأمل والمحبة والتفاؤل. كانوا عزّلاً إلا من براءتهم وانتمائهم وإيمانهم بوطن العدالة والمساواة والحرّية والسلام. ناموا بصمت على صفحة دمائهم، وتوسّدوا أشلاءهم.
لم يبحثوا يوماً عن بطولات زائفة ليبرّروا عنفاً وحشياً يعتمل في قلوبهم، ولم ينخرطوا يوماً في فيالق القتل بدعوى أنّ عدوّا يتربّص بهم، وبأنّهم مجبرون على الدفاع عن أنفسهم، ليصنَّف إجرامهم تحت خانة الدفاع عن النفس والوطن.
شاءت الأقدار أن يذهبوا للقاء ربّهم أطهاراً من دون الحاجة لسفك دماء من طغى وعاث فساداً في الأرض. كانت ابتساماتهم تعلن على الملأ أنّ الجريمة المبررة عقلانياً والجريمة غير المبررة عقلانياً تنتميان إلى عالم إجرامي واحد.
ربّما أحبوا وطنهم أكثر منّا، فكانوا شهودا على اغتيال عاصمتهم التي عشقوها بجنون. ماذا يتوجّب على أهل الحكم السلطويين تجاههم ؟ لا شيء يردّ لنا واحداً منهم. قوى الشر والظلم والطغيان غير آبهة بما أصابهم. جلّ اهتمام هذه القوى يتركّز على إخضاع البقية، ومن لا يمتثل لمشيئتهم فليلحق بهم. ماذا عسانا نريد ؟ لا شيء سوى العدالة. العدالة هنا كشف ومحاكمة الذين استقدموا المواد المتفجّرة وخزّنوها، والذين تستّروا عليهم و تواطؤوا معهم، وعرّضوا أمن الشعب للاستباحة والانتهاك.
الأمر في غاية البساطة : إحقاق الحقوق ونشر العدالة في مجتمع الإنسان الحر ودولة القانون مسألة بديهية سلسة. لكن هل نعيش في دولة يحكمها القانون ؟ هل يتجاوز وجود الإنسان المواطن الحر المستقل إطاره النظري والبلاغي في المجتمع اللبناني ؟ هل لدى أبناء المجتمع اللبناني حرّيات فردية وجماعية حقيقية لقيام حياة سياسية سوية ؟
لسنا في بلد يحكمه نظام توتاليتاري بل أدهى وأقسى. المنظومة الحاكمة تجاوزت بالممارسة ما يُطلَق عليه اسم النظام التوتاليتاري الاستبدادي الشامل على غرار توتاليتارية هتلر وستالين وموسوليني وأشباههم. من الناحية الدستورية نحن نعيش في مجتمع حر ديمقراطي ومستقل.
أما عمليا، فنحن لسنا سوى رعايا في خدمة مذاهبنا من منظور القادة المذهبيين والطائفيين الذين يمارسون طغيانا “توتاليتاريا” وفق ممارسة سلطوية تسير بخطى حثيثة نحو تفكيك مجتمع وبناء كيان متذرر غير اجتماعي، وإشاعة ثقافة غير ثقافية في ظل قوانين جائرة غير قانونية، وحياة عدمية لا نسمة حياة فيها وصولا إلى تشكيل نظام فساد ونهب غير نظامي.
نتمسّك بدولة العدالة والقانون لأنّ الحكام أسقطوا القوانين. و بسقوطها انهارت الدولة ومؤسساتها. في غياب القانون العام العادل، يصيغ كل فرد أو جماعة قانوناً خاصاً يحاولون فرضه على جميع أهل البلاد. ميزة هكذا قوانين أنّها فئوية وذاتية وإقصائية، ولا تفكّر إلا بمصالح وأهداف الجماعة أو الفرد الذي وضع القوانين: هذه هي شريعة الغاب السائدة في بلادنا. القوّة هي الحق وهي إيذان بإعلان حرب الكل على الكل.
إذن بتنا رهائن نظام لصوصي يعمل وفق مبدأ القوّة هي الحق، ولا حق إلا بالقوّة. نظام قضى على كل إمكان لبناء كيان سياسي سيد وحر ومستقل نسبياً. نراه يساوم يومياً أيّ عصابة ويتحاصص معها، لكنّه لا يقبل بالانصات إلى المطالب البديهية المشروعة للناس المقهورة. إنّ من أوصل البلاد إلى هذه الحال المزرية لا يؤمن بالعدالة وأحكامها ولن يسمح بإقرارها.
استولى الحاكمون في بلادنا على السلطة بدعم خارجي مشبوه بدعوى الحفاظ على أمن المواطن ورزقه وتوفير أسباب العيش الكريم علّهم يكتسبون شرعية صوَرية من خلال الطبل والزمر. وكانت النتيجة استباحة الأمن والأرزاق، وأُجبِر الجميع قهراً على الغرق في الفقر وفي عرض البحر أو التشرّد أو التسوّل على أبواب قصورهم أو الانضواء في جماعات وعصابات تشبيحية وترهيبية تحميها شبكات النفوذ التي أنشأها الحاكمون المتسلطون. سقطت كل الأقنعة التي تزعم شرعية تمثيلها للناس ومصالحها.
إنّنا نعيش في سجن كبير مظلم غارق في نفاياته ومجاريره، يفتقر إلى أبسط مقوّمات عيش الكائن الحي. عبثاً نأمل تحصيل العدالة على يد حكام غير مسؤولين عن أنفسهم. كيف يمكن أن يوكل إليهم مسؤولية أمن اللبنانيين وحياتهم ؟
رحل أحبّاؤنا ولم يرحل الجناة. تنامى العفن في عقول وقلوب الممسكين برقابنا. لو كان لديهم ضمائر حيّة لصحت من هوْل جرائمهم، ولربما ما وقعت أصلا هكذا جرائم. أليس في هذا العالم مؤسسة دولية تنظر في مصير ملايين البشر المغلوب على أمرهم الذين يتهددهم الموت والمجاعة والقهر والإذلال والحروب العبثية لصالح الآخرين في الخارج؟ أما آن لهذا الشعب أن يرتاح من ارتهانات حكامه وعته مشاريعهم الانتحارية؟ عجباً! متى استطاع العبيد slaves في نفوسهم أن ينشِئوا وطناً للأحرار، أو على الأقل أن يعيدوا حقاً سليباً لمظلوم ؟
نحلم بمجتمع آمن مسالم يعيش أبناؤه في وئام مع بعضهم البعض، محايد في الصراعات الدولية والمحاور الإقليمية. نحلم ببلد الحرّيات والرخاء والازدهار والعلم والإبداع، بلد الفنون والآداب والفكر المتجدد، بلد الاختلاف والتنوّع والتعددية الدينية والثقافية والسياسية والإثنية، بلد الأنوار والانفتاح والهويّات الحيّة المتجددة المتفائلة المتثاقفة وغير الإقصائية، بلد العدالة وحقوق الإنسان. باختصار، بلد يصنع الحقّ فيه كل مظاهر القوّة الأخلاقية والمعرفية والسياسية والروحانية والاقتصادية.
هذه الأحلام في نظرهم غير مشروعة وغير واقعية، أما أوهامهم و هذياناتهم و سردياتهم الأسطورية فهي الواقع. لذلك فجّرت ألغام حكامنا أحلام ضحايانا. العدالة والحقوق في بلادنا أسرى غطرسة العبيد وحديثي النعمة والنفوذ المشبوه وتفجيراتهم و اعتقالاتهم وإرهابهم؟ مع ذلك، سنستمر من أجل أن نحلم بالعدالة القادمة تخليداً لـ ضحايانا الأبرياء والمظلومين.