بقلم الدكتور نسيم الخوري
إكتمل المثلّث الأسطوري الذي غرق أو اُغرق اللبنانيون في زواياه فتساوت أضلاعه إلى حدود البلاهة ورفع إهرامات الأحزان الضخمة الطويلة مع سقوط الإهراءات في المرفأ. سمع المحيط العربي والإسلامي والعالمي صراخنا، لكن لا حلول في الآفاق تفكّك الأساطير، لأنّ العالم مشغول اليوم ببساطة بتداعيات اسطورة الحروب الروسية وأوكرانيا والغاز والنفط ودرء أسطورة الصقيع والرعب من غدٍ أسطوري وجنوني.
1- شهدنا في الزاوية الثالثة من هذا المثلّث (الخميس 4/7/2022) الذكرى الثانية لتفجير مرفأ بيروت الضخم الذي هزّ العالم، واعتبر بنتائجه كارثة نووية أسطورية دمّرت القسم الأكبر من المناطق المسيحية الأرتوذكسية والمستشفيات والمؤسسات ودور العبادة والجامعات والقصور العريقة بهندستها التاريخية. عطل لبنان رسميا بالمناسبة، وسبق الذكرى بيومين بداية سقوط الإهراءات بسبب الحرائق المشتعلة بأطنان القمح والحبوب المدفونة تحتها بسبب الحرّ أو غير ذلك، في زمنٍ ينام فيه اللبنانيون على أبواب الأفران طلباً للرغيف، بينما ينام المسؤولون في قصورهم وكأننا في جمهورية بلا جماهير.
نجد في هذه الزاوية اتجاهين متناقضين ملفوفين بالأحقاد والإنقسامات التي يستحيل فهمها وردمها ونسيانها:
أ – اتجاه رسمي شعبي سياسي إعلامي يطالب بالإبقاء على معالم الإهراءات المتداعية كشاهد تاريخي حافظٍ للذاكرة الجماعية يدمغ الأجيال القادمة بالجريمة التاريخية التي قسّمت البلاد والعباد، وأخفت المسؤوليات،
وأورثت الضياع الدائم حتى تبيان الأسباب والحقائق ومحاكمة المرتبكين مهما علت مراتبهم.
ب – يحمل الإتجاه الآخر الصفات عينها من الشعبي الى الرسمي لكنّه يورث القهر بقلوب أهالي المصابين، إذ تُطالب الدولة اليوم بأخذ الحيطة والحذر وعدم الإقتراب من بقايا معالم الإهراءات بسب مخاطر الحرائق تحت الإهراءات التي قد تسبب غباراً مخيفاً يهدد المحيط بالإختناق والأمراض. وبدلاً من التظاهر هناك، عليهم الإبتعاد وإحكام نوافذ منازلهم وعرباتهم، ووضع الكمامات فوق كمامات الكوفيد تخوّفاً من التلوّث والأمراض والمخاطر.
2 – في الزاوية الأولى نتذكّر، خروج الإمام موسى الصدر من قم عام 1958 إلى لبنان ليمنحه الرئيس فؤاد شهاب الجنسية اللبنانية. طرح الإمام مساراً فكرياً ونضالياً ومسيرةً شاقّة لإخراج طائفته من الأحزاب والتجمعات اليسارية مطلاً على النضال الفلسطيني والعربي وتشظّياته جاذباً المفكّرين والنخب المتنوعة. أطلق “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” ثمّ “حركة أمل” مهندساً بعض لِبْنات العلاقات السورية-الإيرانية من لبنان ورسّخ شعاراته : “السلاح زينة الرجال”، و”إسرائيل شر مطلق”، و”حركة المحرومين”.
خُطف الإمام موسى الصدر في ليبيا ( 25 أغسطس/ آب 1978) أو قتل وتمّ تغييبه فصار رمزاً لطائفته الشيعية وما يتجاوزها في الذكرى السنوية التي يقيمها رئيس مجلس النوّاب ورئيس”حركة أمل” نبيه برّي.
3 – نتذكّر الرئيس رفيق الحريري في الزاوية الأسطورية الثانية، الخارج من صيدا نحو السعودية مملكة الخير ليعود مساهماً بإخراج لبنان من الحروب الطويلة ومحاولا إخراج أبناء عاصمته الثانية بيروت من الميثاقية التي وضع بذرتها الأولى رياض الصلح حيث لا شرق ولا غرب إلى إزالة
الشعور بالغبن حيث لا تعداد بل مناصفة المسيحيين والمسلمين في توزيع السلطات التي تعثّر ترسيخها عبر تطبيق إتّفاق الطائف. كاد الرجل يرسخ في لبنان هواه المعتدل والعمراني في عالمٍ راح يضجّ بالإرهاب والغرائز والصحوات الدينية، وبقي يّقيم في حدّ الأساطير بنظرته إلى مستقبل لبنان.
صعد الحريري وصعد موسى الصدر من قبله، كلّ على طريقته ونهجه وأحلامه، بمحيطهما ذي الكثافة أو الأرجحيّة الشعبيّة السنيّة والشيعية، ورسّخا سلطاتهما من لبنان وفيه نحو السطوح العالية والنفوذ ثم أسقطا من فوق ، في ظروف لا تنتهي من الألغاز و”الأساطير” الشعبيّة والإنقسامات القيادية والحزبية والطائفية والمذهبية في لبنان والمحيط .
ألا يحقّ لنا التساؤل عن أسطوريّة هذين الحدثين الكبيرين اللذين بذرا حبّة الفتنة الأولى في الصراع المذهبي إنطلاقاً من الأرض اللبنانيّة؟
جاء الخطف حدثاً أسطورياً بما تعنيه وتحمله الأسطورة من معانٍ وأفكار وتخيلات خارج دائرة الموت. وجاء إغتيال رفيق الحريري(14 فبراير/ شباط 2005 ) في قلب بيروت المدينة العريقة للمستقبل ويوم “عيد الحب” الحافل بالأساطير والمشاعر والإحتفالات التي تستقطب الناس في لبنان والدنيا وجاء تفجير المرفأ اسطوريا.
لو سألتني الآن: ما هي الأسطورة أو ماذا تقصد بالغياب أو الموت الأسطوري اللبناني في مثلث من الأساطير، مع أن ميتات أخرى حصلت في العالم ولم تصل حدود الأساطير،لأجبتك على الفور ما كتبه القديس أوغسطين في كتابه: “اعترافات”:
” أعرف جيّداً ما هي الأسطورة، بشرط ألا يسألني عنها أحد ، وإذا ما سُئلت فسوف يعتريني الاحمرار والتلكؤ والخوف، لأننا نعيش في بقعة اسطورية اسمها لبنان تأوي الكلام والمبالغات والأسطورية وعدم الاستقرار والمتاهات و… استدعاء الحروب والكوارث وصار اللبنانيون
في المرتبة الثانية البائسة في الدنيا بعد افغانستان.