بقلم د. ميشال الشماعي
لا يمكن بعد سيل الأحداث التي تعصف في المنطقة عموماً وفي الساحة اللبنانيّة خصوصاً النأي بملفّ رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة. لكن ما يجب التمييز به في هذا الملفّ هو حتميّة لبنانيّته. فمقولة أنّ الرئيس اللبناني هو رئيس تعيّنه الدّول الإقليميّة والعظمى هي مقولة ساقطة لأنّ اللبنانيّين وحدهم أصحاب القرار في هذا الموضوع.
فانتخابات 2022 شكّلت مرحلة انتقاليّة في الحكم لكن حتّى الساعة لم يتمّ تسييلها في القرار السياسي. وما لا يمكن إغفاله أنّ النّظم النسبيّة لا تنتج مجالس فيها أكثريّات مطلقة. ولعلّ هذه المسألة هي من أبرز مساوئ هذه النّظم، بعكس النّظم الأكثريّة التي تفرز محادل لا أكثريّات مجلسيّة. من هنا، نفهم التعدّديّة المعارضاتيّة التي نتجت عن فوز أكثريّة غير منسجمة حتّى الساعة. ولكن أهميّة هذا الحدث الديمقراطيّة تكمن في أنّ الشعب قال كلمته، ونزع الأكثريّة التي استطاعت منظمة «حزب الله» تكوينها مع حلفائها بالترهيب والترغيب في انتخابات 2018 التي استطاعوا مدّها بالحياة عبر تغطية سلاحها غير الشرعي.
أمّا اليوم فلقد نجح اللبنانيّون بإسقاط هذه الأكثريّة. والاتّصالات بين أفرقاء المعارضة مستمرّة بشكل دؤوب، وعلى ما يبدو أنّ هذا الفريق بات يملك ورقة تعطيل لمواجهة دويتّو المنظومة والمنظّمة إن استطاعا فرض مرشّح غير المرشّحين المنضوين في خطّ الثامن من آذار، أعني هنا الوزيرين فرنجيّة وباسيل. فالثاني لا يقبل بالأوّل، وهو بدوره غير مقبول سوى من حليفه الشيعي بينما يبقى على خصومة جذريّة مع الرئيس برّي. من هنا، يدأب «حزب الله» على البحث عن مرشّح مقبول من قبل أهل بيته أوّلاً ليستطيع أن يسوّقه عند أوليائه الإيرانيّين الذين سيعملون حتماً على تسويقه دوليّاً علّه يشكّل ورقة قوّة لهم في مفاوضاتهم النوويّة. مقابل ذلك، الفريق المعارض حسم مسألة مواصفات الرئيس حيث يجب أن يتمتّع بالحدّ المقبول سياديّاً والحدّ الأقصى إصلاحيّاً. ويبقى في هذه المرحلة البحث في كيفيّة رأب أيّ تصدّع في هذا الفريق؛ وبرز في هذا السياق اجتماع النوّاب الجدد الثلاثة عشر في المجلس في اليومين المنصرمين، مع رفض ثلاثة منهم الحضور لاعتبارات لم يتمّ شرحها للناس الذين انتخبوهم وهم النائبتان بولا يعقوبيان وحليمة قعقور والنائب ابراهيم منيمنة؛ وتريّث بعضهم أمثال النائبين أسامة سعد وعبد الرحمن البزري. وما رشح عن هذا الاجتماع هو تلك البلورة السياديّة لمواصفات الرئيس المقبل. وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على أنّ هذا الفريق بات على قاب قوسين من ترجمة انتصاره في الانتخابات النيابيّة في الملفّ الرئاسي.
فيما تقع المسؤوليّة في حال فشل هذا الفريق على عاتق كلّ مَن رفَض وما زال يرفض أن يتعاون في ترجمة فوز المعارضة النيابي في انتخابات الرئاسة. عسى أن يتعلّم هؤلاء كلّهم من الفشل الثلاثي الذي تسبّبوا به في انتخابات رئاسة المجلس النيابي ونائب الرئيس، وانتخاب اللجان، وتكليف رئيس الحكومة ويصحّحوا ما اقترفته أنانيّة بعضهم تجاه بعض أوّلاً، ورفضهم التعاون مع بعض الأحزاب بالاتّفاق على اسم مرشّح للرئاسة يحمل المواصفات التي تفرضها المرحلة المقبلة علينا لننقذ ما تبقّى من الجمهوريّة.
وحذارِ من الدّخول في تسويات لبنانيّة – لبنانيّة «أبو ملحميّة» إرضاء لبعض المرجعيّات الدوليّة التي تحاول أن تراعي مصالحها الاستثماريّة مع الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران. وأعني هنا بالتحديد مَن مفترض عليها أن تكون أمّاً حنونةً للبنانيّين، أي فرنسا، التي تحاول الضغط على الايرانيّين لانتزاع ملفّ الترسيم منهم لأنّهم وحدهم يملكون المفتاح، وليس منظمة «حزب الله» كما حاولت ان توحي بمسيّراتها الهزليّة فوق كاريش. فتصبح المعادلة: الترسيم للغرب بإشراف فرنسي مقابل الرئاسة للإيرانيين. هذه المسألة مرفوضة قلباً وقالباً. مَن يريد أن يقدّم تنازلات لتحقيق مصالح ومكتسبات لدولته فليقدّمها من حسابه وليس من حساب اللبنانيّين؛ حتّى لو كانت فرنسا أو غيرها.
ولا يحاولنّ بعض المتذاكين اللعب على وتيرة الأسماء والمواصفات الوسطيّة فوق الطاولة والولائيّة لإيران ومحورها وعملائها في لبنان من تحت الطاولة. فهذه الأسماء كلّها مرفوضة ولن تتمكّن من تجاوز عتبة الثلث المعطّل. أو حتّى بعض المبدعين الذين انتقلوا اليوم من مقولة الرئيس القوي بعدما أخذوا الجمهوريّة وأسقطوا الرئاسة إلى مقولة الرئيس التمثيليّ قبل نتائج انتخابات 2022 علّهم يستردّون هذه الرئاسة، ليبتدعوا مقولة جديدة وهي الرئيس الذي يتمتّع بالتمثيل الشعبي الأكبر بعدما لم يتمكّنوا من ترجمة تمثيليّتهم المزعومة في نتائج الانتخابات النيابيّة، ليهدوا الجمهوريّة لمَن سيهديهم الشعبيّة. أعني هنا بالتحديد الفريق العوني الذي أسقط الناخب المسيحي عنه صفة القويّ والتمثيلي في الانتخابات النيابيّة.
في الخلاصة، فليطمئنّ اللبنانيّون السياديّون الأحرار الذين صوّتوا بالطريقة الصحيحة. لن يكون أيّ رئيس للجمهوريّة سوى الرئيس الذي يترجم تطلّعاتهم. وذلك لأنّ الحقيقة لا بدّ وأن تشرق كالشمس. ولكن على اللبنانيّين أن يدركوا في جوهر وجودهم الإنساني بأنّ الإنسان مسؤول عن دوره في صناعة التّاريخ وليس عن التّاريخ بحدّ ذاته. فحذارِ أن يخرجوا من التّاريخ بسبب بعض حديثي الولادة السياسيّة الباحثين عن الرئاسة على حساب الجمهوريّة !