بقلم عقل العويط
بتهيّبٍ وتواضعٍ وحكمة، أكتب هذا المقال الذي كان ينبغي لي أنْ أكتبه بعيد انتخابكم، لتقرأوه بتهيّبٍ وتواضعٍ وحكمة، راجيًا أنْ تجعلوا العقل مولاكم، في كلّ ما تفكّرون فيه، وما تريدون القيام به، وما تتّخذونه من مواقف وقرارات. فهو (العقل) يقود خطاكم النيابيّة الفتيّة، ويسدّدها، ويثبّتها، ويحميها ويصونها في غابة الجنون السياسيّة اللبنانيّة، ويدرأ عنها الأخطاء والأخطار.
أنتم الآن أمام استحقاقٍ حاسمٍ، هو استحقاق الرئاسة، فاسمعوني جيّدًا: أدعوكم إلى الفعل، إلى المبادرة والاقتحام (متجنّبين التهوّر والدعسات الناقصة)، وعدم الاكتفاء بردود الفعل، أو تلقّي المبادرات، أو الانتظار السلبيّ. بادِروا على الفور بما يمليه عليكم الخيار الوطنيّ والشعبيّ الاعتراضيّ العارم الذي حملكم إلى الندوة البرلمانيّة، وبما يجعل الكتل والأحزاب الأخرى تقتنع بلزوم ملاقاتكم في هذا الوعي السبّاق المبادِر. كونوا فاعلين لا منفعلين، ولا تفسحوا لأحدٍ أنْ يعتقد أنّه هو المايسترو المؤهّل لإطلاق المبادرات، حاسبًا أنّه يكربج قدرتكم على المبادرة، أو يربككم، أو يفرفطكم، أو يلجمكم، أو يحشركم في مرشّحٍ أو موقفٍ أو خيار.
لا أحد من بين النوّاب التقليديّين يشبهكم. وأنتم لا تشبهون أحدًا منهم. الرحم التي وُلِدتم (نيابيًّا) منها، أي “المصدر” الذي جعلكم نوّابًا، لا يشبه أيّ “مصدرٍ” آخر تتحدّر منه الغالبيّة الساحقة جدًّا من أطراف الطبقة السياسيّة اللبنانيّة. كما لا يوازيه أيّ “مصدرٍ” آخر.
يطلقون ألسنتهم الطويلة وأبواق مواقعهم في هفواتكم، في دعساتكم الناقصة، في أخطائكم العَرَضيّة. وأحيانًا يطلقون بالونات اختبارٍ لكم، ويفبركون الدسائس والشائعات، وقد ينسجون الوعود المعسولة، بما قد يخلب الأذهان، فيجعلكم تقعون في حبائلها. أنتم لا تحتاجون إلى شهادات حسن سلوك من أحد. الآخرون يجب أنْ يشعروا بعقدة نقص حيالكم (لا العكس) لأنّكم أحرارٌ، ولم تفرّخوا في أجهزةٍ حزبيّة واستخباراتيّة وميليشيويّة معلّبة، ولا تعميكم الاصطفافات الرعناء. هذه الصفات هي في ذاتها مدعاةٌ للافتخار، لكنْ أيضًا للتهيّب والتواضع والحكمة – اسمعوني جيّدًا – للتهيّب والتواضع والحكمة، وخصوصًا ومعًا وفي الآن نفسه، للذهاب بعيدًا في إضفاء معنًى غير مسبوق (إلّا نادرًا في الحياة السياسيّة اللبنانيّة) على مفهوم ممارسة السياسة، وعلى معنى النيابة ودور النائب، وفي شقّ آفاقٍ من شأنها أنْ تؤسّس لثقافةٍ معياريّةٍ وقيميةٍ جديدة للسياسة (كم التأسيسُ على صخر، كم هو شاقٌّ، وكم مسارُهُ طويلُ الأمد).
لم يسبق في تاريخ لبنان السياسيّ الحديث، أنْ فاز نوّابٌ (بهذا العدد وبهذه النوعيّة) لا يدينون – البتّة – بفوزهم إلى محورٍ إقليميٍّ إلى جهةٍ دوليّةٍ إلى طائفةٍ إلى مذهبٍ إلى زعامةٍ إلى حزبٍ إلى عشيرةٍ إلى مالٍ وإلى آخره. أكرّر: لم يسبق أنْ فاز نوّابٌ (إلّا نادرًا جدًّا) لا يشعرون بأنّهم مدينون بدَينٍ ما إلى جهةٍ، سوى الوجدان الوطنيّ – الشعبيّ الجمعيّ الاعتراضيّ التغييريّ الرافض. هذا أيضًا في ذاته مدعاةٌ للافتخار – لكنْ خصوصًا للتهيّب والتواضع والحكمة، ومدعاةٌ في الآن نفسه ومعًا، لتثمير هذا الانتخاب، وتحويله إلى عمليّةٍ سياسيّةٍ منظّمةٍ ومؤطّرةٍ ورائدةٍ وخلّاقةٍ وغير مسبوقةٍ في الحياة السياسيّة اللبنانيّة.
في خضمّ هذه الغمرة الرهيبة، ها أنتم قد دخلتم المعترك النيابيّ منذ نحو ثلاثة أشهرٍ، كمَن يدخلون إلى غابةٍ متشابكةٍ ملأى بالمفترسين الأقحاح وبالكمائن وبالفخاخ، وسط هذه المافيا السياسيّة السلطويّة الحاكمة، المتشعّبة الجذور، والمتعدّدة الوجوه والأذرع، والمتآلفة المصالح.
أنتم في “المكان” التاريخيّ، وفي التوقيت الذي يؤازر احتمال قيام الطريق الثالث في حياتنا الوطنيّة. فلا تسمحوا لأحدٍ بتفكيك أوصالكم، وبثّ الفتن وإثارة الحساسيّات والشروخ في ما بينكم. فتعقّلوا، وإيّاكم أنْ تنخدعوا لتسوّل لكم نفوسكم، أو ليوسوسوا لكم الوساوس، فيستولي على بعضكم الانتفاخ والاغترار فيتوهّم في نفسه ما ليس في نفسه للتوق إلى مراتبَ ومناصبَ ورئاساتٍ (مبارح فتت ع العمل السياسيّ الجدّ، واليوم قبل بكرا بدّي أعمل رئيس حكومي، وليش لأ رئيس جمهوريّي، ولو في مجال بعمل رئيس مجلس!) يحتاج الارتقاء إليها إلى سنواتٍ بليالٍ وبنهاراتٍ من الكدّ والنضج والحنكة والحكمة والتمرّس والخبرة والثقافة السياسيّة.
إيّاكم وتسهيل وصول مسترئسٍ لاهثٍ عبدٍ خاضعٍ تابعٍ ذمّيّ “يواصل المسيرة الحاليّة”. إيّاكم وتسهيل وصول مسترئسٍ آخر من الطينة التبعيّة نفسها، ومن المحور نفسه. وإيّاكم أنْ تسمحوا بإبقاء منصب الرئاسة شاغرًا. بل “افرضوا” بـ”موقعكم الثالث”، بحرّيّتكم الحيويّة، بتمايزكم النوعيّ، بالعقل والوعي والحكمة والشجاعة والمبادرة، مرشّحًا للرئاسة عاقلًا حكيمًا عارفًا بلبنان وبالدستور وبمعايير الثقافة السياسيّة، عابرًا للاصطفافات (الالتحاقيّة والشعبويّة) العقيمة، يكون أمينًا للوجدان الجمعيّ الذي جعلكم نوّابًا، ويؤمن بسيادة الدولة، دولة القانون، وبسيادته على ذاته وقسمه وشرفه وقراره، ويوظّف قدراته الحيويّة الحرّة في عمليّة إنقاذ لبنان.
و… أنْ يكون مرشّحًا سياديًّا إصلاحيًّا غير فاسد (ترى، هل يجب أنْ أضيف هذه الجملة، لكي أكون صاحب مبادرة؟!)
وبعد، اسمحوا لي بشيءٍ من المصارحة الجادّة: تحتاجون إلى الاستعانة بأهل المشورة، فلا تتردّدوا في طلب هذه المشورة. فعملكم النيابيّ شاقٌّ للغاية، وملتهمٌ، ومفترسٌ، وكم من السهل أنْ يغرق الخائض فيه في وحولٍ ورمالٍ قاتلة. أنتم في أوّل الطريق، طريق الدربة الطويلة الصابرة. ما أكثر المطبّات، وما أهوَن الارتباك والتعثّر والسقوط والوقوع في الغلط الشنيع. عليكم بإحاطة أنفسكم بمَن ليس في نفوسهم غاياتٌ كما في نفس يعقوب. وعليكم بتشغيل العقول من جوانبها كافّة. هذا طبيعيٌّ للغاية، وليس نقيصة. لذا أدعوكم إلى التريّث الحكيم بأنْ تحسبوا الأمور جيّدًا، وبأنْ “تعدّوا إلى العشرة” قبل إطلاق التصريحات والمواقف، بسبب قلّة الخبرة في هذا المجال من جهة، وبسبب الفخاخ التي تُنصَب لكم قصدًا عند طرح بعض الأسئلة المحرجة والمفاجئة عليكم. وأدعو بعضكم إلى فرملة أنويّته المفرطة وطموحاته السابقة لأوانها. تيمّنًا بالحكمة القائلة مَن عرف حدّه وقف عنده.
واعلموا أنّ العمل السياسيّ في واقعيّته وبراغماتيّته، يجب أنْ لا يخون في أيّ حالٍ من الأحوال المعايير القيميّة والأخلاقيّة، التي يجب، في المقابل، أنْ لا تكون صنميّةً وحرْفيّةً، بحيث تجعل المشتغل بالسياسة مشلول القدرة على أنْ يتعامل بواقعيّةٍ عقلانيّةٍ مع المعطيات والوقائع السياسيّة.
خذوا يا نوّاب 17 تشرين هذا الكلام برحابةٍ وأخوّة، وليأخذه معكم حلفاؤكم الموضوعيّون بالطريقة نفسها، لأنّ منطلقه وغايته إنقاذ الجمهوريّة واستعادة الدولة.
باشِروا فورًا شغلكم هذا (وغيره): باستقلاليّةٍ نادرة، بانفتاحٍ نادر، بثقةٍ نادرةٍ بالذات، بعقلانيّةٍ نادرة، بوعيٍ وطنيٍّ نادر، بواقعيّةٍ براغماتيّةٍ نظيفةٍ ومتشبّثةٍ بالمعايير، بشجاعةٍ نادرة، وبكرامةٍ نادرةٍ بات عزيزًا وجودها.
ثمّ عليكم بالعقل الذي يملي التهيّب والتواضع والحكمة. فإيّاكم أنْ تنسوا التهيّب والتواضع واللحكمة. ما أهوَن نموّ الخسّ في الرؤوس!
نصيحة على الهامش إلى الرأي العامّ الذي أوصل نوّاب 17 تشرين إلى البرلمان، وإلى مواقعه للتواصل الاجتماعيّ: ما أهوَن جلد الذات. علينا بالهدوء والتعقّل، ولنتجّنب جلد أنفسنا و… هؤلاء النوّاب!