بقلم جهاد بزي
فقط لو أن الوقت أسعف الإمام الراحل روح الله الخميني. لو أنه، في الليلة السابقة لتنفيذ هادي مطر اعتداءه على الكاتب سلمان رشدي، اقتحم الإمام منام هذا “الأمريكي” الطائش، وقرّعه في الحلم تقريعاً، وسحب من يده الآلة الحادة وأمره بالعودة فوراً إلى بيته ليكمل حياته كمجهول، كمجرد أميركي آخر من جذور وملامح عربية يعاني أزمة هوية عميقة.
لو أن الوقت سمح للإمام بمثل هذه الزيارة الخاطفة إلى أحلام الشاب لا كي يقنعه بالعدول عن تنفيذ جريمته، بل حتى تكبيله في سريره وتركه حيث هو إلى حين انتهاء المحاضرة ومغادرة رشدي القاعة بسلام.
أي ماضٍ ينبشه على النظام الإيراني ومناصريه الشيعة حول العالم، هذا الشاب المولود بعد اختراع الإنترنت، وقبل ثلاث سنوات على 11 أيلول؟ الشاب الذي يبدو أنه يحب أن يكون قد ولد وعاش في عصر سابق لعصره، يظن أن إيران كانت جالسة تنتظر طوال السنوات الأربع والعشرين الماضية ريثما يصل هادي مطر إلى قاعة محاضرات في نيويورك لينفذ فتوى الإمام. كأنها كانت عاجزة عن التنفيذ من اليوم التالي لصدورها عن الإمام العليل في حينها والذي توفي بعد بضعة أشهر على إعلانها.
الإمام الخارج لتوّه منهكاً من حربه الخاسرة مع العراق، كان يحتاج إلى مبارزة أخيرة مع الغرب يظهر فيها للسنة قبل الشيعة أنه الفارس والقائد الإسلامي الخالد الذي لا يهاب أحداً، وأنه مستعد للتصدي بصدره لقيم الغرب وأفكاره زوداً عن دين الله بإقامة حد القتل على كاتب، ولو أنه لم يكن يريد فعلاً أن يقتله، وإلا، لسبق سلمان رشدي روح الله الخميني إلى ملاقاة ربّه.
الفتوى، في حينها، كانت خاتمة استعراضية للعقد الأول من عمر نظام يحاول أن يجد له مكاناً بين الكبار، كيفما اتفق، إن بالهتافات الخيالية، “ازحفاً زحفاً نحو القدس”، و”الموت لأمريكا” و”الموت لفرنسا”.. أو، عملياً، بخطف الطائرات والصحافيين وتفجير السفارات، مروراً بالطبع بتشكيل حزب الله، الإبن المدلل والانجاز الأكبر، وربما الأوحد، للثورة.
لكن إيران خطت منذ عقود خارج عقدتها الخمينية. لم تعد بحاجة إلى ألعاب خفة واحتيال تخطف فيها رهائن عبر منظمات باسماء وهمية لتفاوض الغرب. وقد استغلت أفضل استغلال القرار الكارثي للقاعدة وأخواتها بضرب هذا الغرب في عقر داره، لتقدم نفسها، والطائفة الشيعية معها، بصفة الإسلام المعتدل الذي يمكن للغرب أن يحاوره، ويتعايش معه، بل وحتى يحل أي مشكلات عالقة بينهما، بأقل أضرار ممكنة للطرفين. وبينما حيّدت إسرائيل إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، قدمت نفسها للغرب بصفتها عدوة عدوه المتشدد اللدود، وتركت لهذا الغرب أن يسقط في شر أعماله لتستفيد من أخطائه، في العراق ولبنان وسوريا وغيرها.
إيران القوية هذه، تركت للفكر المتشدد أن يمد بنفسه جسور التواصل بينها وبين أميركا وأوروبا. وقد أبدع رعب القاعدة وداعش والذئاب المنفردين في الشرق الأوسط أو في قلب الغرب معاً، أبدع هذا الرعب في جعل إيران على صورة الحمل الوديع والنظام الدولة ذي الملامح الواضحة. دولة يمكن أن يثق خصمها بأنها تغيرت عما كانت عليه، حتى عندما قتل دونالد ترمب جنرالاً بحجم قاسم سليماني، ردّت علناً من دولة على دولة، ولم تلجأ إلى أي عمل قد يحسب عليها إرهابياً. إيران لم تعد في وارد أن تقوم بأعمال ضد مدنيين غربيين إن في شوارع بيروت أو بغداد أو باريس ولندن وبرلين، وحتماً ليس في قاعة محاضرات في نيويورك.
أتى الشاب المعتوه، هادي مطر، من خارج الصورة تماماً، ليوقظ على إيران شياطين ماضٍ ليست بحاجة إلى إيقاظها. فالفتوى لم يطرحها القائد لتنفذ أصلاً، بل لتبقى هكذا، عالقة في الهواء. وقد سقطت ليس بفعل التقادم، بل لأن الرواية التي كانت “جريئة” في حينها، باتت الآن بريئة وساذجة شديدة الحذر في نقدها للإسلام إذا ما قورنت بآلاف الفيديوهات والمقالات والكتب بالعربية وغيرها، والتي يشن فيها عدد لا يحصى من الناس، بعضهم نجوم سوشال ميديا، هجوماً بلا سقف ولا قعر على كل ما ومن يتعلق بالإسلام. في هذا العالم المتلاطم من النقد العنيف للدين وتاريخه وحاضره وعقيدته، لم يصدر بعد ولو فتوى يتيمة عن مكتب المرشد الخامنئي بهدر دمِ مرتدٍ ليكون عبرة لغيره، كما كان يفترض بسلمان رشدي أن يكون. فإيران أكثر ما تجيد غض النظر حين يكون ذلك في مصلحتها.
وإيران ليست معنية بنشاط قتل المسيئين للدين. تفضل دائماً أن يتطوع المعسكر الآخر بالقيام بهذه الأعمال القذرة عنها، كما في حالة شارلي إيبدو مثلاً، لكي تصير صفحتها أكثر نظافة. هادي مطر الآتي من العصر الحجري للثورة بدا إحراجاً هائلاً لإيران، فلا هي قادرة على شجب ما فعله الشاب الأرعن ولا مباركته، ولا هي قادرة على إسكات جيوش الحمقى من مناصريها على السوشال ميديا، بالأخص اللبنانيون منهم، الذين راحوا يكيلون المديح للمجرم ويشتمون الضحية جنباً إلى جنب مع صور الإمام الراحل، في استعادة جديدة لثنائية الكاتب والمرشد، لا يد للأخير فيها، وقد رحل منذ عقود عن دنيانا الفانية، ولا حول ولا قوة للأول أيضاً، وقد عاش عمره ضحية فتوى سياسية بحتة، وعاد ليدفع عينه ويده وساعده وما تبقى من حياته ثمناً لغباء أميركي شيعي ساء عليه تفسير فتوى انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد.
فقط لو أن الإمام الخميني وصل في الوقت المناسب إلى حلم هادي مطر. لكن أخذ الآلة من يده، وألبسه ثوباً أبيض، وقال له: لو أنك حقاً تحبني يا بني، لو أنك تحب إيران وتريد مصلحتها الجيوسياسية٬ لتخليت عن قتل هذا الكاتب، لأن لا أحد يقرأ أصلاً. لو أنك تحبني كما تزعم، لقمت الآن من سريرك وذهبت إلى ساحة تايمز سكوير لعنها الله، وأنشدت “سلام فرمانده” للأميركيين. لا بأس بأن تردد “الموت لأمريكا” لكن في سرّك. لا تدع أحداً يسمعك.