من ذاكره مدينه بيروت… شارع الحمراء : فاقة بعد عز !

بقلم جمال حلواني

إلى الكاتب والروائي الراحل محمد عيتاني الذى كتب قصة “غربال على درب خندق ديبو سنة 1953”.

من خندق ديبو، أو زقاق الحمرا سنة 1898 إلى شارع الحمرا الذائع الصيت، وشانزليزيه الشرق في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، التى جعلت من الشارع أحد اساطير لبنان وصفحاته المشرقة، التي دُوِّنت بحروف الثقافه والمعرفة، واستمرت حتى هذه اللحظة، رغم حال الموات والدمار الذى لحق بالشارع ومنطقة رأس بيروت ولبنان بشكل عام.

اليوم الشارع مصاب بالفقر من كل نوع، فقر الدم في شرايينه ومرابعه وثقافته واقتصاده. يطغى على مشهده أعداد من المتسولين الذين يلحون على العابر، عند كل تقاطع وفي كل خطوة يخطوها، وبدلاً من محلات الألبسه ذات الماركات العالميه الشهيرة، انتشرت محلات (البالة) من الألبسة الاوروبية المستعملة، وستوكات محلات (الاوت لت) التي باتت “تزين” الواجهات، رغم أنه مازال محافظاً على نسبة من المطاعم والمقاهي وبعض البارات المتفرقة، الا أن السمة العامة أنه بات يعج بالمتسولين من كل الأعمار المنتشرين على أرصفة جانبيه.

ومن المتعيشين على الأعمال الهامشية التي لا تطعم خبزاً كسائقي سيارات الأجرة الذين يدورون فيه وحوله بانتظار راكب يقلونه إلى مقصده، وكباعة اليانصيب وعلب المحارم وماشابه من أنشطة لا تسد جوعاً. أما مستوعبات النفايات فيحرسها “النكيشة” الذين يبحثون عن مواد صالحة للتدوير، وتغض بلديه بيروت النظر عنهم، فقد حولوا زواياه في منطقه رأس بيروت والحمرا إلى مخازن لنشاط هؤلاء النكيشه بحثاً عن المواد المعدنية والبلاستيكية والكرتون وكل ما هو صالح لإعادة التدوير.

اغلب الفنادق مقفلة أو بالكاد مفتوحة، والشوراع المحيطه مظلمة. أما شارع الحمرا فقد تبرع احد نواب بيروت باضاءته على الطاقه الشمسية من ماله الخاص، ما انتشله من ظلام دامس كان يغرق فيه.

ويعود الفضل في حركه السياح اليوم، إلى السياحة الاستشفائيه في مستشفي الجامعة الاميركية، وجملة المستشفيات المحيطة لاستقبالها المرضى العراقيين وغيرهم على مدار السنة، وحضور بعض السياح الاردنيين والمصريين دون آخرين من جنسيات اوروبية مختلفة، ما عادوا يتوافدون على مطاعمه وفنادقه ومكتباته.

لم يعد شارع الحمرا استثناءً، بل اصبح كأى منطقه لبنانية ثانية، غاب عنها التنوع الثقافي، ولا دور اقتصادى وسياحى وتجاري له، ويتعرض لضغط المحاولات المستميتة لسياده الاستهلاك الرخيص وثقافه الطوائف المذهبية، وآخرها خضوع بعض الفنانين والفنانات الممانعين/ ات لسلطه الحاكم والمتحكم الطائفى، لإحياء مجالس العزاء العاشورائية على خشبة مسرح المدينة، تحت عنوان الديمقراطية للجميع.

وكان يجب على هؤلاء أن لا ينسوا أن الديمقراطية يجب أن تسود كل مناطق لبنان، لا أن تدخل الى مناطق تحمل تراثاً عريقاً في حداثة التنوع، بهدف تغيير هويتها الثقافية والاجتماعية وإخضاعها لثقافة طوائفية غالبة.

والواقع أن شارع الحمرا بات يتلقى الضربات من كل جانب، ويخطو نحو الاحتضار نتيجه انهيار الدولة والاقتصاد وتفكك المجتمع فى لبنان، ويبقى الأمل بنهضته منتظراً حين نسمع أن آل الصباح في صدد ترميم مسرح قصر البيكاديلى لمعاودة نشاطه على صعيدي عروض السينما والمسرح، وكذلك عادت المقاهي تلعب دورها كساحات حوار وتبادل أفكار.

وهذا يتطلب من كل القوى التغييريه والجمعيات الاهلية والأندية الثقافية وكل المهتمين بإنماء عاصمتنا بيروت، العمل الدؤوب على بدء وضع اسس جديدة لاحياء البُني الأساسية لإعاده انتاج مفاهيم وادوار تباشر تحضير ورشة عمل يندرج فيها كل اصحاب المبادرات لإعادة بناء دور بيروت الجامع، وفي مقدمها هذا الشارع، وعلى كل الأصعدة التعليمية والثقافية والاستشفائية والترفيهية والتجارية وغيرها.

كيف تأسس ونما الشارع ؟

يُروى أن صراعاً نشب بين بنى تلحوق من دروز بيروت، وبني الحمرا السُنة الوافدين من البقاع إلى رأس بيروت لبيع محاصيلهم الزراعية. ثم ما لبث أن تنازع بني تلحوق وبني الحمرا في السيطرة على المنطقة، وبنتيجه هذا الصراع اضطر بنو تلحوق إلى النزوح عن مساكنهم في رأس بيروت، والتحقوا بجبل لبنان، تاركين اراضيهم ومنازلهم لبني الحمرا، الذين حلوا مكانهم. وكانت المنطقة تُعرف قبلاً باسم جرن الدب، وسميت بعدها باسم خندق ديبو، ويبدوأن التسميه الأخيرة هي من الاسماء البيروتية، مقترنه بلهجة أهل بيروت ذات النكهه الخاصه بهم.

وتحول خندق ديبو إلى تسميه زقاق الحمرا تيمناً بمقام احد الأولياء من بني الحمرا، وهو مقام لم يعد موجوداً. وبالتدريج اخذت هذة المنطقه تشهد كثافه سكانيه وتوسعاً وتمدداً، وتحمل اسماء تميزها عن بعضها البعض، فمحيط شارع بلس وجان دارك والمكحول، وأغلب تسميات الشوارع اتت خلال فترة الانتداب الفرنسى للبنان، وهذا المحيط كان يعرف باسم زقاق طنطاس. ويعود الفضل في هذا التوسع إلى قيام الكلية السورية الانجيلية عام 1866 التي عندما اشترى دانيال بلس الأرض لإقامتها، قال أهالي بيروت هازئين أنه سيسكن مع الثعالب والواوية، باعتبارها مجرد أرض خلاء مقفرة تصلح للزاراعات الشتوية والصبير لتوافر مياه الأمطار، ولا تصلح للإقامة، باعتبار أن حدود العاصمة من الناحية الغربية كانت منطقة القنطاري دون أبعد.

طول شارع الحمرا 1300 متر، وبشكل مستقيم، ما أعطاه بعده الجمالي. ويمتد بدءاً من مصرف لبنان ووزارة السياحة، المقر السابق شبه الدائم طيلة فتره طويلة لمعرض الكتاب العربى فى لبنان الذي باشره النادي الثقافي العربي منذ عقود طويلة. وبنايه جريدة “النهار” على مدخله هي احدى معالم الشارع، وينتهي غربأ عند اشهر تقاطع، يلتقي فيه شارع الحمرا مع شارع السادات، الذي تقطعه زاويه ابو طالب، دكان البقاله الأشهر فى لبنان والمنطقه العربية، لما مرَّ عليه من سياح عرب واجانب. وما تزال المنطقه تسمى باسمه رغم أنه أزيل منذ فتره طويلة.

ذكرنا أن الفضل يعود في بلورة وجود الشارع والمحيط ، وتحوله من خندق ديبو إلى شارع الحمراء العريق الذي كاد لا يتسع لرجل واحد مع دابته، إلى تاسيس الجامعه الاميركية فى راس بيروت سنه 1866 باسم الكلية الانجيليه السورية فى بيروت من جانب مرسلي الجالية البروتستانتية، وضمنها بالطبع المستشفى وكلية الطب. والتي باتت مقصد طلاب الطب والمرضى مع ذويهم. وكذلك باقي الكليات الآولى في الجامعة التي كانت بمثابة جديد في المنطقة العربية وليس في لبنان فقط.

ومن زقاق الحمرا توسع تدريجياً، واصبح اسم بيروت مرتبطاً بشارع الحمرا لشدة تنوعه الثقافي والاجتماعي والمسرحى والنضالى والسياحى. بدأت شهرة الشارع في الستينيات عندما أخذت البرجوازيه اللبنانيه تبحث عن اسواق جديدة قريبة نظراً لحاجتها إلى نقلة نوعيه سياحيه وتجارية، تتجاوز الوسط التجاري الذي بات ضيقاً على طموحاتها، ولا يلبي حاجاتها المتصاعدة.

وتبعاً لذلك نشأت في هذه المنطقة فنادق ودور سينما ومسارح ومطاعم ومكتبات ومحال متنوعة، ما اعتبره البعض مكملاً أو بديلاً لأسواق الوسط التجارى المعروفة باسم البلد، وساحة الشهداء ومتفرعاتها نحو ساحتي رياض الصلح والدباس، التى باتت ذات نمط شعبي لاحتوائه علي مركزية الاسواق (النجارون، الخياطون، الصاغة، الخضار، الحبوب وغيرها) والتي تحوي كل متطلبات المواطن وحاجياته الاساسية، والمقصودة من جميع المناطق، مع ما يرافق ذلك من زحمة سير خانقة، حيث تختلط المتاجر بالأسواق بالدوائر الحكومية والمؤسسات المصرفية والمحترفات وغيرها.

هذا التطور الاقتصادى حدث مع بروز اقتصاد النفط عربياً، ونمو الدولة وبناء مؤسساتها المالية من مصرف مركزي ومصارف وشركات مالية كبرى والضمان الاجتماعى والتفتيش المركزى في مرحلة الشهابية ( 1958 – 1964)، وحيث إن المنطقه العربيه وخاصة بلدان الخليج كانت فى بداية فورة النمو المالي، وهي بحاجة إلى كل العناصر الاولية من خدمات مصرفية، ودور الوسيط مع بلدان واسواق اوروبا التي لعب لبنان خلالها هذه المهمة، وكان نصيب شارع الحمرا ازدهاراً ملحوظاً على هذا الصعيد، مقترناً بتنوع ثقافي تعليمي اجتماعي أوسع من نطاقه، ويمتد إلى رأس بيروت وباقي مناطق الحمرا.

وهو ما تحقق بداية من خلال الطلبة العرب والأجانب الذين انجذبوا إلى جامعته الكبرى ومؤسسات التعليم التي ظهرت تباعاً وبخاصة ثقافتها الانجلو فونية.

وجود الجامعة الاميركية وإنشائها المستشفى، ثم قيام شبكة من المستشفيات الصغيرة حولها، وقيام المصرف المركزي وغيره من المؤسسات، ساهم بنسبة كبيرة في نهضة الشارع واكتسابه بُعده العلمي والمالي والسياسي. والمؤكد أن دور الجامعة الاميركية ساهم بنمو النوادي والمراكز الثقافية العربية والاجنبية والجمعيات العلمية والاحزاب السياسية، وأقدمها كان الحزب السوري القومي الاجتماعي على يد مؤسسه أستاذ الأدب الألماني في الجامعة الاميركية انطون سعادة، ومن هذه الجمعيات جمعية العروة الوثقى التى أدت إلى نشوء حركه القوميين العرب التي أسست النادي الثقافي العربي، والعديد من الحركات السياسية القوميه واليسارية. عدا المركز الثقافي الاميركي والسعودي والايراني والاسباني وغيره من المراكز الثقافية التي أنشأتها السفارات التي استقرت في المكان.

والاعداد الكبيرة من الطلاب العرب والفلسطنيين واللبنانيين الذين يرتادون الجامعة هم بحاجة إلى اماكن سكن ومكتبات ومطاعم ومقاهٍ وملاهٍ ليليه، وأغلبهم من عائلات ميسورة مالياً، وهو ما ساهم في توسع الشارع، ومعه منطقه رأس بيروت من شارع بلس والمقدسى إلى شارع السادات وشارع اوتيل الكومودور، وصولاً إلى منطقه الصنائع.. وهي منطقة واسعة تحتشد فيها كل العناصر التى اعطت للشارع زخمه وصورته المشعة.

وتجدر الإشاره هنا ان صخب الحياة الثقافيه بدأ عبر مجىء أعداد لا يستهان بها من المعارضين السياسين والكتاب والشعراء والمثقفين والمناضلين العرب المعرضين للقمع في بلدانهم، حيث كان لبنان هو الملاذ الآمن لكل انواع المعارضات، وساعد على ذلك تواتر الانقلابات والتحولات السياسية في كل من سوريا ومصر والعراق مع ما رافقها من التوجهات التأميمية اوائل الستينيات. وهي التي أدت إلى هجرة اعداد من التجار والمتمولين واصحاب الرساميل، ومعهم جاء اغلب المعارضين للإقامة في لبنان، وهم من مرتادي الهورس شو والدولتشي فيتا في الحمرا والروشة.

كان هذا يترافق مع نمو تيار لبناني عروبي هو تيار حركة القوميين العرب، بينما كانت قضية فلسطين محور الوعي القومي في المنطقة ولبنان في طليعتها. ومعه شهدنا تدفق عدد لا يستهان به من الاكاديميين الفلسطينيين والمتمولين كذلك. ويسجل في هذه الحقبة بداية نمو اليسار اللبناني، وتشكيل تيار شعبي ونقابي وعمالي أخذت تتأسس معه نقابات واتحادات عمالية وطلابية، ويضاف لذلك حضور اساتذة جامعات وكوكبة من الشعراء اللبنانيين والعرب الذين حملوا في قصائدهم ونقاشاتهم هموم الوطن الصغير والكبير على حد سواء.

ثقافة واستهلاك معاً

هذا التوسع السياسي رافقه توسع اعلامي، فإلى جانب “النهار” شغلت “السفير” منذ ما قبل أواسط السبعينيات ( 1974) موقعها في نزلة سينما السارولا. وبذلك باتت أبرز صحيفتين في لبنان عملياً في شارع الحمرا. الاولى بميولها الليبرالية والثانية بتوجهها القومي العروبي الفلسطيني واليساري. وضمن المناخ العام للشارع والمنطقة استقرت العديد من وكالات الأنباء العربية والدولية، بينما استقطب فندق الكومودور الصحافيين الأجانب الذين رابطوا فيه، قبيل انطلاقهم نحو تغطية الأحداث العاصفة التي بدأت بالظهور في البلاد عموماً وجنوبه خصوصاً.

ومن البديهي أن وجود صحيفتين كبيرتين وجامعتين اميركيتين في المنطقة وبعض المعاهد الخاصة، والعديد من النوادي الثقافية ورواد متطلبين لأحدث الاصدارات من دور النشر المحلية والعالمية أن يقود إلى زيادة عدد مراكز الأبحاث والدراسات، والمكتبات العامة ( مكتبة نعمة يافث في الجامعة الاميركية ومركز الأبحاث الفلسطيني ومركز دراسات الوحدة العربية وغيرهم )، والمكتبات مثل مكتبة بيسان ومكتبة عصام عياد الشهيرة ومن تجذبه من “صعاليك” الشعر والأدب، إلي مكتبة انطوان بنخبوية قرائها الفرانكوفونية والانجلوفونية، مروراً بعدد كبير من مكتبات ارصفة الشوارع التى كانت الملاذ للقرّاء من الطلاب وأبناء الطبقات الفقيرة لرخص أسعار الكتب المعروضة المستعملة في رفوفها، يقصدونها لما تحويه من كتب بلغات أجنبية وعربية مطلوبة من الحركات السياسيه والثقافية العربيه والشمال افريقيا الوافده الى بيروت هرباً من قمع انظمتها، والتي بات شارع الحمراء بمثابة الحضن الدافىء لها.

ومع هذا التوسع في الطلب من جانب الحركات السياسية والثقافيه العربيه واللبنانيه ازدهرت الفنادق والمقاهى والمطاعم وبيوت السكن للطلاب، وأصبح الشارع اكثر تنوعا ليلبى حاجات طلاب الجامعات وزواره الدائمين او المتقطعين من عرب وأجانب. ولذلك افتتحت محلات لماركات عالميه ( محل جيلار ) أو ( شارل جاكوب ) أو( بوس ) ومحل ( جي اس ) و ( جاك واند جونز ) ويظل الاشهر على صعيد نوعية الاحذية هو ( الرد شو ) و”باتا”.

حضور الكتاب الشعراء والمثقفين ومسوؤلي الاحزاب وعناصرها بشكل كثيف ادى إلى انتعاش المقاهي حيث تنعقد اللقاءت والحوارات السياسيه التي شغلت زوايا الشارع الرئيسي والفرعيات، ومنها ما ارتبط اسمه باحداث هامة بلورت نهضة الشارع، وما حصل في مقهى الهورس شو الذى استضاف عرض مسرحية لجلال خوري حين رفض الامن العام اللبنانى الترخيص بعرضها، وعلي اثرها قام المخرج والمنظمون والفنانون بعرضها على المارة فى الشارع امام المقهى. وهنا لا ننسي مقهى الويمبي الشهير الذى شهد اهم عمليات المقاومه الوطنيه اللبنانيه ضد الاحتلال الاسرائيلى لبيروت حين قام المقاوم خالد علوان بتنفيذ عمليه اطلاق نار على ضابطين اسرائيلين كانا يرتادان المقهي، فقتلا على الفور. ولا ننسي مقهى الانكل سام.

ويبقى مطعم فيصل في شارع بلس مقابل البوابة الرئيسية للجامعه الاميركيه الأكثر شهرة برواده المثقفين القوميين لبنانيين وعرباً من معارضين وأساتذة الجامعة وطلابها واصحاب المراكز الحكوميه العربيه واللبنانية، حتى أن الراحل منح الصلح يروي أن الرسائل التي كانت تفد على الجامعة، كانت تضع على العنوان “الجامعة الاميركية مقابل مطعم فيصل” مرورا بمقهى شى اندرية وكاس نبيذ مع سندويش مقانق او سجق، ومطعم استنبولي قرب اوتيل الكومودور.

وشهدت بيروت ومقاهي الحمراء خصوصاً حضور قامات شعرية وثقافية وعربية كبرى لا سيما في المرحلة التي استقرت فيها المقاومة الفلسطينية ( 1970 – 1982 ) في يبروت مع حشد المثقفين الفلسطينيين ومنهم غسان كنفاني وآل الصايغ وآل دجاني وماجد ابو شرار وصقر أبو فخر وناجي العلي، وكادر العاملين في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومجلتها ومن الاجانب المترددين على مكاتب المقاومة ومؤسساتها ، ومن العاملين في الصحف اللبنانية والفلسطينية.

وهؤلاء جميعاً لم تكن بيروت غريبة عنهم في العقود الماضية، فكثير منهم درسوا في الجامعة الاميركية ودرَّسوا في صفوف طلابها منذ ماقبل النكبة وما بعدها. وهؤلاء لا يحصون عدداً، ومنهم شعراء العراق: محمد مهدي الجواهري، معروف الرصافي، أحمد الصافي النجفي، بلند الحيدري، بدر شاكر السيّاب، نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي وشوقي عبد الأمير والعشرات من الكتاب والأدباء الشيوعيين العراقيين المطاردين.

أما شعراء فلسطين وسوريا فقد استقبل منهم الشارع كثيرين أمثال: محمود درويش ومعين بسيسو ونزار قباني وادونيس ومحمد الماغوط و.. وكل شعراء لبنان من يوسف الخال وأنسي الحاج إلى آل العبدالله وعباس بيضون وبول شاوول ومحمد واحمد علي فرحات، ومقهى المودكا، وطاولة شوقى بزيع في زاويته ومقهى كافيه دو بارى، ولا ننسي المقيم الدائم زياد الرحبانى ومسرحياته خلال الحرب الأهلية والتي عرضت فى قصر البيكاديللي في شارع الحمراء ورأس بيروت، وروجيه عساف ويعقوب الشدراوي ونضال الأشقر وعبيدو باشا… وتطول القائمة.

وعلى مسرح قصر البيكادلي بفخامته كانت فيروز تصدح بصوتها الملائكى مع الرحابنة، ومسرح سينما الاورلي وجان دارك و سينما الحمرا و مارينينان وسارولا و الدورادو وبافيون وستراند، وفي نهاية الشارع عند تقاطع ابو طالب سينما فرساي المطلة علي بحر بيروت والحمام العسكري.وهي قاعات قدم فيها كل من الفنانين مرسيل خليفة وماجدة الرومي واحمد قعبور وأميمة الخليل وريما خشيش وخالد الهبر وسمية بعلبكي وغيرهم من فنانين حفلات عامرة بالحضور من طلاب ومثقفين ومناضلين.

اذن كان لشارع الحمرا طابعه الخاص. وهو طابع جاء من تعدديته وتنوعه الفكري والسياسي والثقافي والفني المسرحي والشعري، ومعه حضور رموز من الحركات القوميه العربيه واليساريه والشيوعية، وكل المعارضين والهاربين من قمع الانظمة التوليتارية.

الحرب الأهلية والشارع

مع بدء الحرب الاهلية سنه 1975 والدمار الذي لحق بالوسط التجاري والمالي والاقتصادي في (البلد)، كان البديل عن الاسواق المفقودة شارع الحمراء الذي تحول إلى مركز تجاري، إنما ليس للتجار واصحاب المحلات الذين دمرت أسواقهم، بل قصدته بسطات الالبسة والاحذية خلال حرب السنتين، وهي مهن مارسها أغلب الناس الذىن فقدوا وظائفهم ومصادر عيشهم مبتعدين عن منطقة الوسط التي دمرت أسواقها وباتت خطوط تماس ملتهبة. ومع هذه التطورات بدأت معاناه شارع الحمرا ليس من اصحاب البسطات فقط، بل من هيمنه قوى الامر الواقع من المليشيات المحلية ذات البُعد الاقليمى على فضائه، فكان أن قسمت الشارع الى مناطق نفوذ تحت عين ورعاية المخابرات والجيش السوري وبعدها القوى المحلية النافذة.

واستمرت معاناة الشارع سنوات طويلة، رغم الوفرة المالية التى شهدها تجاره. ففى الاجتياح عام 1982 قصف العدو الاسرائيلى الشارع حقداً على اسطوريته، محاولا تدميره، الا أن المقاومة الوطنية اللبنانية حطمت اندفاعة المشروع الاسرائيلي من خلال عمليات كثيفه في كل أنحاء بيروت، فقد جرت عمليات في شارع الحمراء ومحيطه كعملية مقهى الويمبي، وعمليات صيدليه بسترس و عائشه بكار الشهيرة. وعلي مدى عشرة ايام من احتلاله بيروت، كانت تتوالي عليه الضربات إلى حين اطلاق نداء العدو الاسرائيلى الشهير: “يا أهالي بيروت، لا تطلقوا النار علينا، نحن منسحبون”، واستمرت عمليات المقاومه الوطنية، وتتابعت وتوسعت ساحاتها ليصبح الانسحاب الاسرائيلى ارغاماً تحت وابل الرصاص والنار.

بعد الاجتياح لم يشهد الشارع نمواً، بل حافظ علي ديمومته، وصولاً الي ما بعد اتفاق الطائف، ونشوء وتكريس المحاصصة الطائفية، وخلالها عاود الشارع انتعاشه مجدداً، وعادت له وظيفه تجارية ومالية تطغى على ما عداها من وظائف ثقافية وسياسية.

ومعه تغيرت ملامح الشارع. هذا الانتعاش كان اقتصادياً وتجارياً أظهر مدى قبح وبشاعة راس المال النفعي، وعانى كل ما له علاقه بالثقافة والعلم والمسرح من تدمير ممنهج ومقصود، وبدات عملية اقفال المقاهي ذات الطابع الثقافى والادبي، وتحولت في معظمها إلى محلات لبيع الألبسة والاحذية واقفلت المكتبات أبوابها، وافتتحت محلات العاب واجهزة الكترونية، وكثرت مطاعم الوجبات السريعة ذات الأسماء العالمية، ومع أنه بدا للبعض وكأن الشارع عاد إلي ازدهاره، إنما الفعلي أنه فقد وجهه الحقيقي الذى بني عليه أمجاده سابقاً، واصبح متوحشاً فى علاقاته مع مرتاديه، رغم محاولات البعض الحفاظ على وجه ثقافى وادبي مشرق بعد أن هجره الشعراء والكتاب والحركات السياسيه العربيه نحو أحياء وشوارع بعيدة عن نبضه وروحه.

جاءت محاولات فتح مقاهٍ ذات طابع ثقافي وحواري وعلمى ومسرحي، ومنها ( ة مربوطه ) و ( وجدل بزنطي ) و ( ومقهي ليلي )، و ( زنقة ) و ( كافه دو براغ ) و ( مكتبه ومقهى البرزخ ) وغيرها. وكلها كانت محاولات مستميتة للحفاظ علي البقاء والاستمرار رغم الظروف الاقتصاديه القاسية التي يمر بها لبنان من الأزمة المالية والانهيار الاقتصادي، وثم جاءت جائحه الكورونا لتضيف ازمة جديده إلى أزمات، وادت إلى اقفال عدد لا يستهان به من المقاهى والمطاعمودور السينما ومحلات الألبسة العريقة التي اغلقت ابوابها لأن اصحابها لم يعودوا قادرين على تحمل بدلات ايجارات مرتفعة، وفواتير شهريه لمولدات الكهرباء الخاصة، وغيرها من مصارفات لا تغطيها أرباح عمليات البيع المتراجعة باطراد.

أما الحركة المالية والاقتصادية فلم تتمكن من الصمود والاستمرار على وقع الانهيار المالي والنقدي العام، واصيب شارع الحمراء بركود وتراجع اقتصادى مترافقا مع ازمات البلد، وفقدان السياحة العربية والخليجية تحديداً حضورها. وكل هذه وسواها عطلت الكثير من امكانية عودة المجد الغابر للشارع، بينما هو فعلاً بأمس الحاجة إلى استعادته من بين براثن الهلاك الذي يتهدد وجوده كمكان للتنوع والابداع.

اخترنا لك